مقالات مختارة

على ذمة غالاوي وفيسك: براءة الأسد من دم عباس خان!

صبحي حديدي
1300x600
1300x600

إذا ظنّ امرؤ أنه رأى الأقصى، والأشدّ قباحة وفداحة، في الأداء الدبلوماسي لرجال النظام السوري؛ فإنّ ذلك الظنّ سرعان ما يتبدد حين يصغي المرء ذاته إلى تعليق فيصل المقداد، نائب وزير خارجية النظام، على مقتل الطبيب البريطاني عباس خان (32 سنة)، إعداماً أغلب الظنّ، في معتقل كفر سوسة، بعد اعتقال دام 13 شهراً. أمّا إذا كان امرؤ ينتظر من المقداد، أو رئيسه المباشر وليد المعلّم، أو زميله بشار الجعفري مندوب النظام لدى الأمم المتحدة، أداءً أقلّ رثاثة وانحطاطاً وإسفافاً؛ فإنّ الانتظار ذاك لا يقتصر على الجهل بطبائع عمل السلطة هناك، وأواليات اشتغال أجهزة ‘الحركة التصحيحية’ كافة، طيلة 43 سنة؛ بل يشمل، أيضاً، تجاهل سمة كبرى في المعمار السلوكي للنظام: أنّ الكذب ملح الرفاق!
ففي حديث مع إذاعة الـBBC، باللغة الإنكليزية (لكي يبرهن أنه في عداد "وجوه سَحّارة’ النظام الدبلوماسية، أي أولئك الذين يتولون تجميل موبقات الاستبداد والفاشية والفساد والهمجية)، يقول المقداد إنه حزن عندما اتصلوا به فجأة وأبلغوه بأنّ ‘الرجل مات’؛ ويتابع: ‘أوه! أصابتني صدمة حقاً. ما الذي حدث؟ ثمّ بدأت أجمع المعلومات". وهكذا، قيل له التالي: الطبيب البريطاني استفاق "وهو في أحسن حالاته"، و"معنوياته عالية"، فتناول إفطاره، حوالي الساعة السابعة صباحاً، ثمّ أخلد إلى الراحة ‘في غرفته"؛ وحين أتوا لاصطحابه "كي يتنفس كالعادة خارج غرفته، قرعوا بابه، فلم يردّ؛ ثمّ ‘اكتشفوا أخيراً أنه كان ميتاً، وفي الحقيقة خلع منامته، وعلّقها على شيء ما في النافذة أو الجدار، وانتحر. وهذا ما حدث بالضبط".
وللوهلة الأولى يخال المرء أنّ خان كان نزيل منتجع وليس زنزانة، في ضوء تفاصيل الإفطار والراحة والمعنويات والقرع على الباب قبل الدخول، وكأنّ عناصر الأمن (الذين لا تُعرف عنهم غير الخصال الوحشية والسادية) كانوا خدماً في فندق من فئة خمس نجوم. كذلك يرتاب المرء في أنّ المقداد يستطيع، بافتراض أنه سيغامر ويتجاسر ويحاول، "جمع معلومات" من أدنى عنصر، في أصغر جهاز أمن؛ فيدلي بأيّة معلومة غير تلك التي ستصله عن طريق التسلسل، فيؤمر بترديدها كالببغاء. أمّا حكاية الانتحار باستخدام المنامة، فإنّ تكذيبها أتى أوّلاً على لسان المقداد نفسه، حين ادّعى أنّ الطبيب البريطاني كان في حال نفسية ومعنوية طيبة ذلك الصباح؛ قبل أن يثنّي على تكذيب الكذبة إياها أحد أبواق النظام، النائب البريطاني جورج غالاوي، الذي تساءل: ما الذي يدفع خان إلى الانتحار، بعد موافقة الأسد شخصياً على إطلاق سراحه؟
والحال أنّ مواقف غالاوي، إزاء النظام السوري عموماً، وفي تفسير هذه الواقعة الأخيرة تحديداً، تنقلنا إلى مستوى ثانٍ من الابتذال والإسفاف والتزييف؛ لأنّ النائب البريطاني يساجل على هذا النحو: لسنا نقول إنّ الأسد مسؤول عن موت خان، ولكن لا بدّ من وجود مسؤول ما! إنه، بذلك، يعيدنا إلى تلك الخرافة التي سادت ـ لدى أنماط واسعة النطاق من الساسة والمراقبين، هنا وهناك في العالم، وحتى لدى بعض معارضي النظام السوريين في السنوات الأولى من توريث الأسد الابن ـ وكانت تقول إنّ بطانة الأخير هي وحدها السيئة، وأنه "شابّ" و"عصري" و "إصلاحي". وغالاوي يستعيد الخرافة، تماماً على القياس الميكانيكي، المسطح والتسطيحي عن سابق عمد وتصميم، الذي جعله ينزّه النظام عن استخدام الأسلحة الكيميائية ضدّ الغوطتَين الشرقية والغربية، لمجرّد أنّ محققي الأمم المتحدة كانوا يومذاك في دمشق، يقيمون في فندق على مبعدة ستة كيلومترات من موقع الهجمة!
وبسبب صداقته هذه مع النظام، ولكي يُمنح "مكافأة" إنسانية على أتعابه الانتهازية، استقرّ رأي الأسد على اختيار غالاوي بالذات لكي يأتي إلى دمشق، ويتسلّم الطبيب البريطاني اليوم بالذات، الجمعة، بحيث يكون الأخير بين أفراد أسرته وأهله أثناء أعياد الميلاد. وغالاوي يزعم أنه اشترى تذكرة الطائرة، بالفعل، وكان يستعدّ للسفر حين أعلمته أسرة خان بنبأ "انتحار" الرجل في زنزانته؛ الأمر الذي يرفضه غالاوي بالطبع: "حتى الساعة لم يُقدّم لنا تفسير مقبول. أمر يصعب تصديقه أن ينتحر رجل قبل أربعة أيام تسبق الإفراج عنه. اتصل بي وزير سوري بالنيابة عن الرئيس كي أسافر إلى دمشق قبل أعياد الميلاد واصطحب عباس خان. نحن نريد تفسيراً". 
وكأنّ أيّ تفسير آخر، سوى أكذوبة الانتحار هذه، يمكن للنظام أن يوفّره حتى لأصدق أصدقائه وأخلصهم؛ أو كأنّ التفسير الذي ينتظره غالاوي يمكن أن يشرح، أيضاً، سبب اعتقال طبيب جرّاح بريطاني، ومبرّر إبقائه قيد الاحتجاز والتعذيب طيلة 13 شهراً، ليس لأيّ ذنب آخر سوى أنه جاء متطوعاً لعلاج سوريين مدنيين.
ما لا يقلّ رثاثة وإدقاعاً، فضلاً عن التسطيح المتعمد ذاته، هو موقف الصحافي البريطاني المخضرم روبرت فيسك؛ الذي لا يوفّر مناسبة دون أن يبرهن على أنّ أفدح سقطاته المهنية لم تكن تلك التي قادته، مطلع الانتفاضة السورية، إلى التصديق، ثمّ المصادقة بحماس على، ما يمكن أن يبوح به معتقل تمّ إحضاره إلى مكتب… أحد ضبّاط استخبارات النظام السوري! وفي قضية خان هذه، أدلى فيسك بدلوه فخرج بالنظرية ـ التحفة التالية: "هل كان أحدهم يحاول تخريب العلاقات، المتحسنة باضطراد رغم أنها ما تزال مجمدة، بين الرئيس السوري وبريطانيا والولايات المتحدة؟ مَن الذي سيرغب في منع هذا التحسن؟ السعودية؟ بالطبع. قطر؟ قطعاً. إسرائيل؟ لِمَ لا؟ ولكن الإيحاء بأنّ أياً من هؤلاء الثلاثة يمكن أن يهندس مقتل الإنكليزي الشـاب في سجن دمشقي، أمر منافٍ للعقل".
فإذا كان منافياً للعقل، كما يقرّ فيسك نفسه، فما الغاية من طرحه إذاً؛ إلا إذا كانت الخلفية، الأخرى الفعلية التي يتمسك بها فيسك، هي التالية: "موت عباس خان يثير اليوم إمكانية أن يكون أناس داخل الحكم السوري في دمشق يريدون تحدّي سلطة وسمعة رئيسهم نفسه. من الواضح أنّ السوريين أرادوا إبداء ملمح لحسن النيّة تجاه الغرب عن طريق إطلاق سراح الدكتور خان، إلا "أنّ وفاته توحي بأنّ ثمة أولئك الذين يرغبون في تدمير فُرَص الأسد في المصالحة مع القوى الغربية التي كانت، قبل أشهر قليلة، تعتزم تدمير نظامه في ضربة عسكرية". وبالتالي، إذا صحّ هذا الافتراض، بعد تأكيد فيسك نفسه بأنه لا يصدّق رواية الانتحار، فمَن هم أولئك الذين يسعون إلى تخريب سمعة الأسد، أو سدّ آفاق مصالحته مع الغرب؟
لا يراهن أحد على أنّ فيسك سيسعف قارئه بإجابة ما، أية إجابة’في الواقع، حول هوية هؤلاء؛ هو الذي سبق له أن قابل من رجال النظام كلّ الأصناف، ابتداءً بالوزير الأشبه بالبيدق، مروراً بضابط الاستخبارات، وانتهاءً بحاشية الأسد المقرّبة وأهل بيته. وليس للمرء أن ينتظر معلومة واحدة ملموسة، أو غير منافية للعقل، من صحافي مخضرم سبق له أن امتدح "عصرية" أسماء الأخرس، وتنبأ بأنّ أية انتفاضة شعبية لن تقع في "سورية الأسد"، وهو اليوم يعتبر أنّ "الضربة العسكرية الصغيرة المحدودة للغاية"، التي كان أوباما قد هدّد بها، كانت تستهدف "تدمير" نظام الأسد. وما القول في المحلل المخضرم إياه، يزعم في أوّل مقالته أنّ صلاته الشخصية بمعارفه داخل النظام السوري أفادت بأنّ قضية الطبيب البريطاني "صارت بين أيدي أرفع المسؤولين السوريين"؛ ثمّ يستخلص، في ختام المقالة، أنّ بعض هؤلاء يتآمرون للإضرار بسمعة "رئيسهم"؟
وقبل زمن غير بعيد، حين كانت الانتفاضة الشعبية في أشهرها الأولى، شاء الأسد أن يكون أندرو غليغان، الصحافي البريطاني المعروف بعواطفه الجارفة المنحازة لإسرائيل، أوّل صحافي غربي يجري معه حواراً مباشراً منذ انطلاقة الانتفاضة السورية. كذلك اختار، استطراداً، صحيفة هي الـ"صنداي تلغراف" التي تُعدّ، أسوة بقرينتها الأمّ، الـ"دايلي تلغراف"، منبراً مكرّساً للدفاع الأعمى عن إسرائيل والصهيونية العالمية، فضلاً عن خطّها اليميني المحافظ إجمالاً. وفي جولة صحفية لاحقة، وقع اختيار الأسد على برباره والترز، الإعلامية الأمريكية اليهودية، لكي تكون صاحبة الحظّ السعيد في إجراء مقابلة متلفزة هي الأولى من نوعها مع قناة رئيسية غربية، الـ ABC، منذ ابتداء الانتفاضة.
كلا المقابلتين اكتسبت خصوصيتها، كما حققت انتشارها الواسع، نتيجة اجتماع عاملين: أنّ الجهة التي أجرتها كانت نافذة إعلامياً وسياسياً، وأنّ الأسد زوّد محاوره ومحاورته بمادّة دراماتيكية شدّت الانتباه (الحديث، مع غليغان، عن إحراق المنطقة إذا تعرّض نظامه لأذى؛ ونفي مسؤولية الأسد الشخصية عن أعمال القتل التي ترتكبها أجهزة النظام، في الحوار مع والترز). ولهذا فإنّ الارتياب في اختيار والترز وغليغان، تحديداً، انبثق من حقيقة مشتركة مفادها أنّ حصيلة المقابلتين كانت واحدة تقريباً، أي تبييض صفحة النظام، والترويج لروايته عن"العصابات المسلحة" و"المندسين"، فضلاً عن تلميع شخص الأسد وإعادة إنتاجه كسياسي شرق ـ أوسطي "عصري"، "منفتح"، "درس في الغرب"، و"يتقن اللغة الإنكليزية" و"متزوج من سيدة تربّت في الغرب". أمّا الشطر الثاني من الحصيلة فقد كان الإيحاء بأنّ العاصمة السورية "آمنة" و"مسالمة" و"خالية من التظاهرات"، حتى أنّ والترز صرّحت بأنها تجوّلت في دمشق دون حارس شخصي، وأنها "لم تشعر في حياتها بالأمان كما شعرت به وهي تتسكع لوحدها في طرقات دمشق"!
وتلك حصيلة كان في وسع المرء أن يتفهمها من إعلام إيراني أو صيني أو روسي، ولكن أن تأتي من إعلاميين يهود أو أصدقاء خلّص لإسرائيل، أمر استدعى ترجيح دوافع أخرى أبعد غرضاً من مجرّد تحقيق السبق المهني. وهذا يقود المرء إلى تساؤل رديف: فماذا، إذاً، عن حصيلة ذات طبيعة مماثلة، تبريرية وتسويغية ودفاعية، مثل هذه التي تأتي من أمثال غالاوي وفيسك، المحسوبين عموماً على اليسار، أو الوسط، أو الصفّ المعادي لليمين؟ ثمة، هنا، إجابات شتى متعددة، سياسية وأخلاقية وإيديولوجية ومهنية؛ ولكنها تنتهي، جميعها، في كثير أو قليل، عند ذاك الضمير الذي يتعطل أو ينحرف أو يتعامى بعد أن يُشترى، والذي ـ إذْ يتعرى تماماً، وينفضح ويُفتضَح ـ لا يملك إلا الإطراق أرضاً، بحثاً عن ورقة توت… تغطي العورة المنكشفة!
التعليقات (0)

خبر عاجل