مقالات مختارة

ديمقراطيتنا الافتراضية

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
كتب فهمي هويدي: كان عنوان صحيفة الصباح «وبدأت المعارك على أرض الرئاسة»، وتحت العنوان كلام عن حملة المشير السيسي واللجنة الاستشارية العليا التي ستتولاها والمهام التي سيقوم بها كل واحد من أعضائها الخبراء كل في اختصاصه. في موضع آخر من الصفحة الأولى تقرير آخر عن ترتيبات حملة المرشح «المنافس» حمدين صباحي، التي ستنزل إلى الشارع بسلاسل بشرية من أسوان جنوبا إلى الإسكندرية شمالا، وكيف أن الحملة ترفع شعارات ثورتي يناير ويونيو، وأن المشاركين في تلك السلاسل البشرية سيرددون «قسم الثورة» وسيرفعون صور الشهداء.

 إضافة إلى مطالبة التلفزيون المصري بإذاعة بيان للأخ صباحي يعلن فيه ترشحه للرئاسة أسوة بالمشير السيسي. على أن يبث في نفس التوقيت مستغرقا نفس المدة، وعبر مختلف القنوات التي نقلت بيان المرشح المنافس. وإلى جانب ذلك دأبت الصحف طوال الأسبوع الماضي ــ على الأقل ــ على الحديث عن مضايقات يتعرض لها أنصار حمدين الراغبون في تسجيل توكيلاتهم له في مكاتب الشهر العقاري، واشتباكات بين أنصار المرشحين في بورسعيد والإسكندرية ومصر الجديدة.

ذكرني مشهد «المعركة» بتجربة مررت بها حين زرت بنجلاديش في عام 1981 أثناء عملي بمجلة «العربي» الكويتية. إذ تصادف آنذاك أن العاصمة «دكا» كانت تحتفي بزائر آخر أهم هو محمد علي كلاي بطل الملاكمة الشهير بعد آخر مباراة له. وفي إطار ذلك الاحتفاء نظموا مباراة استعراضية له شهدتها في إستاد العاصمة، كان «خصمه» فيها شابا في مقتبل العمر من هواة الملاكمة. دخل الاثنان إلى الحلبة وقد تهيأ كل منهما للمعركة، التي بدا فيها «كلاي» عملاقا أمام الشاب اليافع الذي لم يضع وقتا.

حيث ظل يتقافز على الحلبة من باب التسخين. ثم ما إن أطلق الحكم إشارة البدء حتى تقدم صاحبنا صوب كلاي وأمطره بلكمات استقبلها وهو يترنح ضاحكا دون أن يرد عليها، موحيا للجمهور بأنه يوشك أن يسقط جراء قوة الضربات. وبعدما أفرغ الشاب طاقته في توجيه اللكمات، تقدم منه كلاي بهدوء وحمله على كتفه ثم ضربه على مؤخرته وهو يضحك، وأنزله على الأرض وسط تهليل الجمهور وتصفيقه.

أزعم أننا بإزاء مشهد مماثل، حيث يعرف الجميع من هو كلاي المفترض في مباراتنا ومن هو «منافسه»، كما أن النتيجة محسومة سلفا، وربما اختلفت التفاصيل في الختام. لكن الفارق الأساسي تمثل فقط فيما بعد المباراة، لأن محمد علي كلاي كان قد أعلن اعتزاله وقتذاك، في حين أن الأمر على النقيض تماما في حالتنا، باعتبار أننا بصدد مرحلة انطلاق وليست اعتزالا.

إن شئت الدقة فقل إننا في الانتخابات الرئاسية نحاول أن نقدم «شو» سياسيا لا يختلف في شيء في الاستعراض الذي شهدته في إستاد دكا. بالتالي فكل حديث يدور الآن حول معركة أو تنافس على التوكيلات وتجاذب بين الأنصار. والكشوفات الطبية والحملات الإعلامية والبرامج التي تعد ثم تعدل، ذلك كله من قبيل إخراج الاستعراض وتهيئة الإستاد السياسي لإشاعة البهجة بين الناس، وإقناعهم بأننا أجرينا انتخابات رئاسية كاملة الأوصاف، شبيهة بأي انتخابات أخرى تجرى في «أجدع» ديمقراطية في العالم.

سمها ديمقراطية افتراضية لها نفس ملامح وشكل الديمقراطية الحقيقية، لكنها تختلف عنها في الجوهر والوظيفة. وذلك خيط إذا تتبعناه فسنجد أنه يتكرر في مجالات أخرى كثيرة. فقد حشدنا أعدادا هائلة من البشر في ميدان التحرير يوم 30 يونيو وافتراضنا أنها شعب مصر وشبهناها بالثورة، ومازلنا نقول إنها ثورة. وحين رأت الإدارة الأمريكية فيها رأيا آخر افترضنا أنها مؤامرة وتخيلنا أن مصر بصدد مناطحة الدولة العظمى وأجهزة المخابرات في أنحاء العالم. ثم استدعينا تجربة عبدالناصر في الستينيات وتوهمنا أن الرجل بعث من جديد. كما توهمنا أن الاتحاد السوفييتي لا يزال قائما، وحين مدت مصر جسورها مع موسكو من خلال زيارة استمرت عدة ساعات، فقد افترضنا أنها وجهت صفعة إلى واشنطن وأن الرئيس أوباما سوف يطلق الرصاص على رأسه بسبب الإهانة التي تلقاها!

لا تحصى النماذج التي ترد في هذا السياق. فقد تحدثنا عن «قوى سياسية»، لكننا لم نجد بينها من يملأ العين ويمكن أن ينافس على الرئاسة. وتحدثنا عن حوار مجتمعي حول الدستور ثم تخيلنا أن برامج التلفزيون قامت باللازم. وقيل إن القضاء سيحمي دولة القانون، واكتشفنا في حالات عدة ــ أحدثها قرار إعدام 529 مواطنا ــ أنه يشتغل بالسياسة وليس بالقانون. وقيل لنا إننا بصدد نظام لن يقصي أحدا، ثم اكتشفنا أنه يرفع شعار الإقصاء هو الحل. وادعينا أن الدولة استعادت مدنيتها وكان ذلك غطاء لدخولها في طور العسكرة. وأوهمنا أنفسنا بأن مصر أم الدنيا وأنها قد الدنيا، ثم وجدناها في الحقيقة في كفالة الإمارات والسعودية...إلخ.

للإمام الحافظ السيوطي الفقيه الشافعي المصري المتوفى في بداية القرن السادس عشر كتاب باسم «الأشباه والنظائر» تحدث فيه عن الأحكام الشرعية الأصلية والفرعية، وأفرد فصلا لفن الحِيَل عند الفقهاء. وقد وجدت أن اسم الكتاب يصلح عنوانا لوصف المشهد السياسي الراهن في مصر. ذلك أن الكثير مما نراه من قبيل يصنف ضمن دون النظائر. بمعنى أنها ممارسات تدعي انتسابا إلى مقومات الممارسة السياسية الرشيدة لكنها ليست بالأصالة التي تجعلها نظيرة لما تدعيه. ينسحب ذلك بالدرجة الأولى على الديمقراطية التي لا تزال عندنا افتراضية تدور في دائرة الأشباه وإن ادعت أنها من النظائر ــ والله أعلم.

(بوابة الشرق)
التعليقات (0)