كتاب عربي 21

"الجامية" و"الداعشية".. وجهان مختلفان وجوهر واحد!

ساري عرابي
1300x600
1300x600

في نفس الحالة السلفية، ثمة ظاهرة مقابلة لـ "داعش" وللتيار السلفي الجهادي عمومًا، ولكنها تشترك معها في نفس الجوهر، وهي ظاهرة "الجامية" المنسوبة للشيخ محمد أمان الجامي، والمشهورة بالدعوة إلى طاعة الحكام ومناوءة معارضيهم وتحريم الخروج عليهم، والتي ظهرت بقوة إبان حرب الخليج الثانية في العام 1991، للتصدي للتيار الإسلامي الذي عارض دخول القوات الأجنبية للجزيرة العربية، ثم نسبت هذه الظاهرة من بعد الجامي إلى الشيخ ربيع المدخلي، وضاعفت اشتغالها على مجموعة من الأفكار، أهمها تبديع مخالفيهم والحكم عليهم بالضلال، ابتداء برموز الصحوة في السعودية ومن سموهم بـ"السروريين" وهم في الأساس خريجو نفس المدرسة (الوهابية/السلفية)، تركيزًا على الإخوان المسلمين وبالذات سيد قطب، لينتهي بهم الأمر إلى شقاق داخلي كبير وتشظي واسع، وإعادة تدوير لأحكام البدعية والضلال فيما بينهم.

قَصَرَت السلفية المعاصرة عمومًا مفهوم أهل السنة والجماعة على التيار السلفي دون بقية الفرق الكلامية بما في ذلك الأشاعرة، ثم ضيقته الجامية المدخلية عليها وحدها، وبحكم من تخصص المدخلي في علم الحديث، أعادوا تشغيل علم الجرح والتعديل بصورة اعتباطية مصطنعة، لا تهدف حتمًا إلى الاستيثاق من أسانيد الأحاديث، ولكن لتسويغ اتهام خصومهم بالبدعة والضلال، كما استدعوا الجدل الكلامي التاريخي حول المسائل الاعتقادية لتطبيقه على الأحزاب والجماعات السياسية المعاصرة، ونسبوا ما اتسموا به من غلظة وعدوانية للسلف، وقد حكموا على كل من وقع في بدعة بأنه مبتدع، سواء كانت بدعة حسب المعايير الشرعية التي تتوفر على قدر من الإجماع أو الاتفاق، أو حسب معاييرهم هم، دون الاعتبار بالموانع التي قد تقضي بالعذر كالتأول مثلاً، وامتحنوا الناس في عقائدهم كي يحكموا لهم بالسنة من البدعة.

هذا الادعاء العالي بحراسة نقاء السنة من أهل البدع، ضيق مفهوم أهل السنة والجماعة ليقتصر على ما يقرره الشيخ ربيع المدخلي، وكأنه استحال إلى (بابا) قيم على نقاء العقيدة المدخلية، وانبنى على ذلك أن كل من خالف المدخلي من زملائه السابقين وإن في مسألة فقهية أو حديثية جزئية صار مبتدعًا ضالاً.

هذا الصراع على التمثيل الصادق لنقاء الأفكار، تطور في حلقة أكثر تطرفًا، عرفت بـ "الحدادية" نسبة لمحمود الحداد، الذي رأى أن المدخلي غير أمين في إنفاذ منهجه في التبديع، وأنه يجبن عن تطبيقه كما يستوجب المنهج، فبدع الحدادُ أبا حنيفة والنووي وابن حجر والشوكاني وكل من امتنع المدخلي عن تبديعه وانطبق عليه منهجه! 

كما يتضح لا يخلو الأمر من الهوى والاعتبارات الشخصية، فضلاً عن تدخل السلطات في تعزيز هذا التيار الذي لم يجد عدد من شيوخه وطلبة العلم الشرعي فيه حرجًا من الاشتغال كمخبرين -احتسابًا لله تعالى- على غيرهم من الدعاة والمشايخ وطلبة العلم! لكن هذه الاعتبارات لا تصلح وحدها للتفسير دون النظر في جوهر البنية التي تقوم على ادعاء تمثيل الحق وحراسته، وهو الأمر الذي يضيق ثم يضيق حتى ينتهي بتيار ثم مجموعة ثم شخص، ولا تحتاج الدول وأجهزتها أحسن من هكذا بيئة فكرية شقاقية لاستخدامها وتوظيفها في مصلحتها.

كانت مشكلة التيار الجهادي، في ذات التصور عن تمثيله الوحي وإمكان استعادة الصورة التاريخية المتخيلة له، صدورًا عن ذات الرؤية السلفية، ولأن هذه التصورات الحلولية الاحتكارية اختلطت بالجهاد، ولأسباب تاريخية تتعلق بتعدد مشارب الحركات والمجموعات الجهادية التي شكلت تيار السلفية الجهادية، واتحدت إلى حد ما في القاعدة، وجعلت أهل الثغور معيار الحق، وبسبب غلبت نسق الغلو على القاعدة، وهو ما رصدته إحدى وثائق "أبوت أباد" في المنتديات الجهادية وفي "دولة العراق الإسلامية"، فإن تعبيرات الحدة في هذه الحالة كانت ذات طابع أكثر عنفًا إن بالتنظير كالتوسع في التكفير، أو الممارسة كالتوسع في القتل بناء على التوسع في التكفير، أو التوسع في نظرية التترس، أو قتل من لا يبايع البغدادي... ولم يغير من اضطراد هذا النسق بعض الخطابات والتوجيهات المتسمة بالرحابة النسبية لأنها من ناحية لم تمس جوهر النسق، ومن ناحية أخرى امتنعت عن تسمية المخطئين بأسمائهم، بل دافعت عنهم بأسمائهم، حتى انتهى الأمر بالشقاق الحالي بين "داعش" والقاعدة.

فضلاً عن هذا الجوهر، وحين النظر إلى التمظهرات العملية، تظهر مفارقات لافتة، فالجامية اتهمهم بعض الدعاة من خصومهم بأنهم خوارج مع الدعاة، و"داعش" التي جعلها خصومها الصورة العصرية الأكثر بشاعة للخوارج يسميها بعض خصومها بالجامية، وإذا كانت "داعش" ترمى بالغلو فإن المدخلي يتهم الحداد بالغلو، وهكذا...!

ثمة أوجه شبه أخرى لافتة، تخرج من هذا الجوهر الواحد، فالجامية توسعوا في التبديع، واخترعوا مبدعات جديدة، وبدعوا  كل من وقع في بدعة، ولم يعذروا بأي مانع من الموانع المقررة، و"داعش" مثلهم في التكفير، والمدخلية تمتحن الناس في عقائدهم بغرض تصنيفهم، و"داعش" وصل بها الأمر امتحان الظواهري نفسه في تكفير عوام الشيعة والإخوان المسلمين، بما يذكر بالخوارج الأوائل الذين كانوا يدينون بـ (الاستعراض) أي استجواب الناس في عقائدهم وقتلهم بناء على ذلك، وأنتجت الجامية ظاهرة الحدادية التي زاودت عليها في التبديع، كما خرجت "داعش" لتزاود على القاعدة في التكفير، وادعاء القيومية على الأفكار التأسيسية كما في استشهادات العدناني في مفتتح رده على الظواهري بنصوص لابن لادن وأبي يحيى الليبي والزرقاوي فيها عبارات تكفيرية وكأنه يعرض بأن الظواهري لم يعد على ذات الخط التكفيري!

إن أوجه الشبه أكثر من ذلك، لكن أكثرها طرافة بناء "داعش" جانبًا واسعًا من تنظيرها وممارستها على ذات النظريات الجامية في طاعة ولي الأمر، ولكنه هذه المرة أمير "داعش" واجب البيعة، وحرمة الإنكار العلني التي قد تعني الكفر وتوجب القتل.. وذلك كله يحيلنا إلى هذا الجوهر الذي لا يضره اختلاف الوجوه المتشابهة!

*ملاحظة: لا يُقصد من استخدام "الحلولية" في هذه المقالة والتي سبقتها معنى "الحلول" الشائع المتداول والمشهور عن بعض الأديان والمذاهب وغلاة الصوفية، من القول بحلول الله –جل وعلا- في العالم، أو أنه تعالى والعالم جوهر واحد، ولكنها أداة تفسيرية تقصد الكشف عن السائد في الخطاب ونمط السلوك من نزعة وثوقية احتكارية إطلاقية، تنم عن وعي كامن بتمثيل نهائي للوحي أو إمكان استعادة الصورة التاريخية المتخيلة له. 
التعليقات (0)