مقالات مختارة

لماذا يحارب المشروع التغييري الإسلامي؟

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600

المخاض الذي تعيشه الأمة منذ بضع سنوات صعب وعسير، ولكنه إحدى ضرورات النهوض ومؤشر لما يحظى به مشروع التغيير من أهمية لدى أصحابه، وخوف عميق لدى أعدائه. وفي هذا المخاض يتداخل الأمل بمولود سعيد بالألم الناجم عن اضطراب الجسد من جهة والوخز الدائم ممن حوله من جهة أخرى.

وربما اعتقد البعض أن التحول نحو الديمقراطية سيحدث بطرق أقل كلفة، غير أن السنوات الثلاث الماضية أظهرت عكس ذلك، وأكدت أن أعداء التغيير كثيرون، يختلفون على كل شيء ويتفقون على وأد ذلك التغيير. ويمكن القول أن أكبر عملية إجهاض للمشروع التغييري حدثت في مصر، فهي عملية قيصرية قتلت الجنين وسعت لتعقيم الأم لكيلا تحمل مستقبلا. وفي البلدان الأخرى حدثت عمليات إجهاض عديدة وأعادت الأمة إلى أسوأ مما كانت عليه قبل الربيع العربي. لقد أصبح واضحا أن الأيدي التي مارست عملية إجهاض التجربة المصرية وسيطرت على التجربة التونسية، هي نفسها التي تحركت هذا الأسبوع لإجهاض التجربة الليبية بأسلوب مقارب لما حدث في مصر. وهي نفسها التي تسعى لإسقاط التجربة العراقية وحولت الحالة السورية إلى حرب طائفية.

وما يبدو من تناقض هنا أصبح فهمه متعسرا على أذهان الكثيرين. فإذا كانت قوى الثورة المضادة ترفض التحول الديمقراطي وإنهاء عقود الاستبداد، فلماذا تتحمس للاضطرابات الدموية في العراق وسوريا؟ هل هي حقا تسعى لإقامة أنظمة ديمقراطية بديلة؟ أم أن لها أهدافا أخرى؟ التفسير الأقرب للواقع أن قوى الثورة المضادة ما تزال تتحسس من مشروع التغيير الذي أصبح مرادفا لمشروع الإسلام السياسي، وهو العقدة الأولى التي ترسخت في نفوس أعداء التغيير وأذهانهم.

ويشترك الغربيون مع أنظمة الاستبداد في العداء لمشروع الإسلام السياسي، ولذلك التقت جهودهم على طريق منع قيامه، أو إسقاطه إن كان قائما. وربما لا يعترض الغربيون على حدوث قدر من التغير الديمقراطي الذي يفترض أن ينسجم مع القيم التي طالما تحدثوا عنها وروجوها في بعض المناطق، ولكنهم لن يعملوا من أجل تحقيقه. أما أنظمة الاستبداد فهي تحارب التغيير بغض النظر عن التيارات التي ستستفيد منه، أو شكل الأنظمة التي سيفرزها ذلك التغيير. لقد أعادت قوى الثورة المضادة قراءة الملف الجزائري وكيف تم إسقاط الخيار الشعبي بانقلاب عسكري مكشوف، حدث في وضح النهار، مع سبق الإصرار والترصد. يومها لم ينطق أحد بكلمة ضد ما حدث، برغم أنه كان انقلابا واضحا ضد مشروع ديمقراطي واعد. والجميع يدرك الآثار المدمرة لذلك الانقلاب، والثمن البشري الباهظ المتمثل بإزهاق أرواح أكثر من 150 ألفا من البشر على مدى أعوام عشرة لاحقة. واليوم تكررت التجربة في مصر، بانقلاب عسكري مقيت، أدخل البلاد والمنطقة عهدا أسود لا يقل حلكة عما جرى في الجزائر، وفي العراق قتل أكثر من هذا العدد، كما استرخص الدم السوري حتى سال انهارا بأعداد من القتلى تفوق ذلك. فما القضية؟ وما الموضوع؟

الأمر الأول أن المشروع الإسلامي كان، وما يزال، وسيظل، مستهدفا من قبل قوى الثورة المضادة، بدون رحمة أو تردد.

وهنا يتم التغاضي تماما عن مقولات حقوق الإنسان، وحتى حين يصدر تقرير أو بيان يشجب الممارسات القمعية للقوى التي أسقطت الخيار الديمقراطي، فإن الشجب يبقى لفظيا ولا يؤدي لاتخاذ إجراءات سياسية أو اقتصادية رادعة. وقد أظهرت تجارب الأمة الحالية أن مقولة حقوق الإنسان تحولت إلى ظاهرة صوتية تفتقد وسائل التنفيذ أو الضغط الحقيقي على الأنظمة التي تنتهك حقوق شعوبها. وتؤكد ما يسمى الانتخابات المصرية بانعدام الموقف الأخلاقي تماما لدى العالم، فالمرشح الأول الذي يقطع الجميع بحتمية فوزه هو نفسه الذي قاد الانقلاب العسكري على التجربة الديمقراطية الأولى من نوعها في مصر في العصر الحديث، وهو المسؤول عن سفك دماء آلاف الضحايا عند مسجد رابعة العدوية وساحة النهضة. مع ذلك يتم التعاطي مع تلك الانتخابات وكأنها مشروع ديمقراطي تغييري أنقذ الأمة من خطر مؤكد يتمثل باستمرار جماعة الإخوان المسلمين في الحكم.

وهنا يتعرض المشروع الإسلامي، كما كان دائما، لحملة تشويه متواصلة. وبدلا من تجريم المجموعات الإرهابية التي تدعمها قوى الثورة المضادة وتمدها بالسلاح والعتاد والمال بدون حدود، يتم التصدي لمجموعات التغيير في العديد من الدول العربية، وتوجه لها الاتهامات التي لا تنسجم مع طبيعتها. فهي بأغلبيتها الساحقة حركات موغلة في القدم ولا تؤمن بالإرهاب أو تمارسه. مع ذلك يساق أفرادها للسجون بدون حساب. ففي مصر هناك أكثر من عشرين ألف سجين سياسي مرتبطين بمشروع التغيير الديمقراطي على أسس إسلامية، وفي البحرين ما يقرب من أربعة آلاف سجين سياسي من نشطاء الثورة، ولدى الكيان الإسرائيلي 5100 سجين فلسطيني أغلبهم من المجموعات الإسلامية مثل حماس والجهاد الإسلامي.

أن ربط جماعات الإسلام السياسي بالإرهاب جريمة ضد التغيير وضد الإنسانية. فهو ظلم لمجموعات وأشخاص باتهامهم بما لا يؤمنون به أساسا، فضلا عن ممارسته. ففي مصر صدرت أحكام الإعدام بحق أكثر من ألف شخص بتهم مزيفة تماما، وفي البحرين تصدر أحكام الإعدام والسجن يوميا بحق النشطاء المشاركين في المشروع التغييري الذي يجمع العالم على أنه الأكثر سلمية في العالم العربي.

وتتعرض الجماعات المنسوبة للإسلام السياسي في العديد من الدول العربية للتنكيل والسجن بسبب ارتباطهم بمشروع التغيير. لقد تم إسقاط الإسلاميين الذين وصلوا إلى الحكم عن طريق الانتخاب الحر، ووضعت العراقيل والمعوقات أمام من لم يسقط منها حتى الآن. إن تلغيم الأجواء التي تعيشها أنظمة التغيير واحد من أنجع الوسائل لإثارة الرأي العام ضد الإسلاميين. هذا في الوقت الذي تتخذ إجراءات أقل صرامة بحق المجموعات الإرهابية التي تسفك دماء الأبرياء بدون رحمة أو ضمير. فالجهود المبذولة ضد مجموعات من نوع بوكو حرام النيجيرية متواضعة جدا. وبرغم خطف حوالي300 طالبة كان الاهتمام بإثارة الرأي العام ضد الإسلام أكثر من الاهتمام بالتصدي للمجموعة أولا وتحرير الطالبات المرتهنات لديهم ثانيا. مجموعات التغيير الإسلامي لا تقبل الجرائم التي تمارسها هذه المجموعات الإرهابية، سواء تلك التي تمارس القتل على الهوية في العراق وسوريا وتهدم المساجد والأضرحة وتستهدف الأبرياء، أم التي تستخدم الإرهاب ضد الأبرياء في البلدان الأخرى.

وباستقراء المشهد السياسي العام في العالم العربي، يلاحظ أن هناك مشروعين مهمين اصبحا أول ضحايا الهجمة على المشروع الإسلامي التغييري. أول الضحايا قضية فلسطين وموقعها في الوجدان الشعبي. فقد تم تهميشها بشكل غير مسبوق، واستهدفت المجموعات المقاومة للاحتلال سواء في فلسطين أم لبنان، واستهدفت منظمة حماس بشكل خاص بعد الانقلاب العسكري المصري، وأغلقت الأنفاق التي كانت مصدر إمداد أهل غزة بمستلزمات الحياة، مع استمرار الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة. فيما أصبحت أنظمة الاستبداد العربية مشغولة باستهداف المعارضين والثوار، وتوفرت للصهاينة حقبة غير مسبوقة من الهدوء السياسي والأمني، بينما انشغل الفلسطينيون بالبحث عن لقمة العيش وشيء من الأمن على أرضهم. واستطاعت قوى الثورة المضادة إزالة أي تهديد عسكري للكيان الإسرائيلي على الحدود، بإنهاء دور جيوش مصر وسوريا والعراق.

يضاف إلى ذلك إزالة القضية الفلسطينية من أولويات العمل العربي المشترك ومن الوجدان الشعبي.

أما التغير الآخر فيتمثل بالتطبيع الفكري والنفسي مع الولايات المتحدة الأمريكية التي أصبحت لدى البعض تمثل الملجأ الأخير من الاستبداد والديكتاتورية. فاصبحوا يخطبون ودها، برغم مواقفهم السابقة وثقافتهم السياسية التي نشؤوا عليها بأن أمريكا حليفة الاستبداد وداعمته سياسيا وعسكريا وامنيا. برغم هذا التطبيع فقد بقيت واشنطن مترددة في دعم التغيير الديمقراطي، وحسمت أمرها بالوقوف مع الاستبداد والابتعاد عن إثارته. وهذا ما حدث خلال اجتماع الرئيس أوباما مع المسؤولين السعوديين الشهر الماضي. إذن كيف يفهم قرار أمريكا وبريطانيا زيادة الدعم للمعارضة السورية؟ الأمر المؤكد أن بقاء سوريا والعراق في حالة توتر أمني متواصل، وحاضنتين للعناصر الإرهابية المتطرفة ضرورة لحماية أنظمة الاستبداد. فلو استقرت أوضاع هذين البلدين لاضطر المسلحون للعودة إلى بلدانهم ومواجهة أنظمة الحكم فيها..

تدرك قوى الثورة المضادة أن وصول الإسلاميين إلى الحكم سيغير ذلك. فستظل قضية فلسطين، في المشروع الإسلامي، محورية، ومصدر اتفاق المسلمين، وواحدا من أهم أسباب وحدتهم. كما ستبقى قيم الاستقلال ثابتة في ذلك المشروع، وسيكون التعاطي مع الدول الأخرى، ومنها الولايات المتحدة، محكوما بالمصالح المشتركة على أساس التساوي والاعتراف المتبادل، وبما يحقق استقلال المسلمين.

وستتلاشى تدريجيا حالة التبعية للغرب وينطلق مشروع الوحدة والتضامن والتكامل، وهذا ما لا يقبل به الغربيون، ولا ينسجم مع مشاريع الاستبداد والديكتاتورية، ولذلك ستحتدم المواجهة بين طرفين: الشعوب العربية والمسلمة المتطلعة للحرية والاستقلال، وقوى الثورة المضادة التي انسلخت من إنسانيتها وتلطخت أيديها بدماء الأبرياء.
التعليقات (0)