مقالات مختارة

في كربلاء زماننا انتصر الدم على السيف

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
كتب فهمي هويدي: صارت غزة كربلاء هذا الزمان، بعدما انتصر فيها الدم على السيف.

(1)

رأيت جيش يزيد ينقض على الحسين في الشجاعية، ويغرق القطاع في الدماء والأشلاء. في حين أن الكثرة العربية عاجزة عن إغاثة المظلومين المحاصرين. خذلوهم وتركوا السيف يفجر الدماء انهارا ويحيل العمران خرابا. تماما كما فعل جيش يزيد في الكوفة قبل أكثر من ثلاثة عشر قرنا، ضد الحسين وأهله الذين تحولوا إلى رموز للتضحية والدفاع عن الحق والحرية. صحيح كذلك أن مقتلة كربلاء استمرت ثلاثة أيام، ومقتلة كربلائنا تجاوزت يومها الثالث عشر. صحيح أيضا أن قتلة الحسين وأهله كانوا من الأشقياء المسلمين. في حين أن قتلة زماننا من الأعداء المؤيدين من بعض المسلمين، صحيح كذلك أن ضحايا المقتلة الأولى تجاوز عددهم نحو سبعين فردا، إلا أن القتلى في زماننا تجاوزوا الأربعمائة، وأعدادهم تتزايد كل يوم. إلا أن جرم القتلة كان واحدا وخذلان بعض الأهل بدوره واحد، ولئن دخل قتلة الأولين إلى التاريخ من باب اللعنة، فإن قتلى زماننا دخلوا التاريخ من باب البطولة والمجد.

 أفرق هنا بين ما هو عسكري يقوم على موازين القوة والقدرة على سفك الدماء وبين ما هو سياسي وتاريخي ينبني على القيمة والرمزية. من هذه الزاوية يقدم فلسطينيو غزة نموذجا يتقدم على أداء الحسين وأهله، ففي كربلاء الأولى سرعان ما انكسرت جبهة الحسين فانسحبوا من الحياة، الأمر الذي حز في نفوس الذين شايعوه، حتى إنهم لا يزالون يعبرون عن ندمهم بصور شتى حتى الآن. أما في كربلائنا الراهنة فالفلسطينيون لم ينكسروا ولم ينسحبوا وردوا الصاع لقاتليهم. ولئن ضرب الأولون المثل في التضحية فإن الأخيرين ضربوا المثل في الصمود والكبرياء، الأمر الذي يضيف إلى سجلهم صفحات مضيئة تبعث على الثقة وتحي الأمل في المستقبل، بقدر ما تضيف الكثير إلى رصيدهم على الصعيدين السياسي والتاريخي.

(2)

تحدثنا نشرات الأخبار عما فعله السيف في المعركة الدائرة، لكنها تبخس إنجازات الدم حقها. كأنما
تدعونا لأن نستسلم للحسرة والبكاء وتحاصر شعورنا بالعزة والكبرياء. تقول نشرة الأخبار الصباحية (الاثنين 21/7) أن 433 شهيدا سقطوا وأن 3008 آخرين تعرضوا لإصابات مختلفة ولا تتوفر إمكانات علاجهم. ومن هؤلاء 904 أطفال. تخبرنا النشرة أيضا بأن 1007 منازل دمرت بالكامل و915 منذلا تصدعت وأصبحت آيلة للسقوط و1746 منزلا أصابها القصف بتلفيات مختلفة، كما دمرت 79 مدرسة و23 وحدة صحية و27 مسجدا. وجراء التهديم والقصف العشوائى أصبح 61.479 شخصا بلا مأوى كما أصبح 900 ألف شخص بلا مياه في حين أن 80? من سكان القطاع البالغ عددهم مليوني شخص لم يعد يصلهم التيار الكهربائي سوى 4 ساعات يوميا كحد أقصى. ولا يكتفي شريط الأنباء بتلك القائمة الطويلة من الفواجع، ولكنه يعززها بشريط من الصور التي تسجل الخراب والجزع وتستدر الحزن والدمع. ويكاد الهلع يتسرب إلينا حين نشاهد جثث الضحايا التي تتداولها مواقع التواصل الاجتماعي. الذين تفحمت أجسامهم وتشوهت أطرافهم والذين كسرت رءوسهم وظهرت احشاؤهم...إلخ.

ذلك كله صحيح لا ريب، لكنه يشكل أحد أوجه المشهد أو الوجه الأكثر بروزا فيه. لكن للصورة وجها آخر ينبغي أن يرى أيضا، ليس فقط من باب الإنصاف، ولكن أيضا لكي نتجاوز الإحباط واليأس.
إذا توقفنا عند ذلك الوجه الآخر، فسوف نرصد المعالم التالية:

< إن المقاومين الفلسطينيين لم يستسلموا ولم ترهبهم قوة الجيش الغازى، ذلك أنهم لم يكتفوا بالصمود والتحدى، ولكنهم قرروا أن يردوا كيد المعتدى. وأن يهاجموه في عقر داره. حتى بلغت بهم الجرأة حدا جعلهم يقصفون مدنه الكبرى وأن يجبروا مئات الآلاف من الإسرائيليين على الاختباء في الملاجئ. وقد اعترف لهم بعض المعلقين الإسرائيليين بالشجاعة والبسالة.

< من أهم ما حققته المواجهة الراهنة أيضا أنها أعادت إحياء فكرة الانتفاضة الثالثة، التي ظن كثيرون أنها صارت جزءا من الماضي غير قابلة للتكرار (هذا هو رأي أبومازن أيضا) ولكن الجسارة التي تميزت بها المقاومة أثبتت أن جذوة الانتفاضة لم تنطفئ وأن تجددها أصبح واردا في أي وقت.

< إن أولئك المقاومين خاضوا معركتهم وحدهم ودون أي ظهير. صدورهم العارية استقبلت قاذفات الأعداء وصواريخهم. وظهورهم لم تسلم من طعنات بعض الأشقاء، إذ قاتلوا وهم تحت الحصار من كل صوب. وإذ لا ينسى أحد معركة حزب الله التي هزم فيها الاجتياح الإسرائيلي في عام 2006، فإن أحدا لا ينبغي أن ينسى أيضا أن الحزب كان مدعوما بسوريا وإيران، وأن خطوط إمداده بالسلاح والذخيرة كانت مفتوحة، إضافة إلى أنه خاض معركته في بيئة سياسية لبنانية متعاطفة معه. أما فلسطينيو غزة فقد حرموا من كل ذلك.

< فاجأ المقاومون الفلسطينيون عدوهم بعمليات نوعية لم تخطر له على بال. بصواريخهم التي وصل مداها إلى 160 كيلومترا. وبالمنصات التي تطلق من تحت الأرض. وبتهديد الداخل الإسرائيلي وإشاعة الذعر فيه. والطائرات بغير طيار وبالأنفاق التي وصلت إلى بعض المستوطنات.

< بسبب الصمود والتحدي الذي بدا في الموقف الفلسطيني فإن إسرائيل فشلت في تحقيق أي اجتياح بري واعتمدت بصورة شبه كاملة على قصف الطيران. وبعد قتل 18 جنديا وأسر آخر، تأكدت مخاوف الإسرائيليين من الثمن الذي يمكن أن تدفعه إذا غامرت بالإقدام على أي اشتباك على الأرض.

< ينبغي أن يحسب للمقاومة الفلسطينية أنها لم تسبب حرجا للإسرائيليين فحسب، وإنما بموقفها كشفت عن حقيقة المواقف في العالم العربي، إذا بدا واضحا للجميع الآن من يقف في الصف الفلسطيني منحازا إلى القضية، ومن يقف في المعسكر الإسرائيلي منحازا إلى العدو. وأحسب أن تلك هي المرة الأولى التي يتم بها الفرز على ذلك النحو الذي أصبحت فيه إسرائيل جزءا من محور عربي لا تقف فيه بعض الأنظمة فحسب، ولكن ينخرط فيه أيضا بعض المثقفين والإعلاميين. أن شئت فقل أنه في السابق كانت إسرائيل تقف وحيدة أمام الإجماع العربي، حتى وإن كان ظاهريا، أما في الوقت الراهن فإن المقاومة الفلسطينية أصبحت تقف وحيدة أمام انقسام عربي صارت إسرائيل جزءا منه.

(3)

ثمة سؤال يتردد في الأوساط السياسية المصرية يقول: لو أن حماس وافقت على المبادرة المصرية لما سالت تلك الدماء الغزيرة ولما جرى من خراب ودمار في قطاع غزة؟ ــ وهو السؤال الخطأ الذي انطلق من معلومات وتحليل خطأ. على صعيد المعلومات فرفض المبادرة المصرية لم تنفرد به حماس، وأكرر أنها رفضت من كل الفصائل الأخرى وعلى رأسها حركة الجهاد والجبهتان الشعبية والديمقراطية، علما بأنه لا يوجد فصيل فلسطيني له علاقة بالمقاومة أعلن تأييده لتلك المبادرة.

أما على صعيد التحليل فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن إسرائيل استقوت بالمبادرة التي سارعت إلى الموافقة عليها، واستندت إليها لكي تتوسع في قصف القطاع. الأمر الذي يعنى أن المبادرة كانت عنصرا ساعد على تكثيف القصف وإسالة المزيد من الدماء وليس العكس.

إن الأسئلة التي تستحق المناقشة والمراجعة كثيرة، منها ما يلي: 

هل يجوز التنسيق والتشاور مع إسرائيل وتجاهل فصائل المقاومة قبل إطلاق المبادرة؟ ولو أن مصر تشاورت مع حماس والجهاد بوجه أخص أثناء إعداد المبادرة، أما كان لذلك أثره على ترجيح احتمالات قبولها ومن ثم وقف نزيف الدماء مع وقف إطلاق النار؟ ألا يمكن أن يؤدى تجاهل المقاومة إلى إساءة الظن بالموقف المصري. وإعطاء الانطباع بأن مصر أرادت إحراج المقاومة وتعجيزها بأكثر مما أرادت وقف إطلاق النار؟ أما كان أدعى للثقة في الموقف المصري أن يناقش الأمر مع المقاومة لتحسين شروط التفاوض حول المستقبل بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي؟ هل من المنطقي والمناسب أن يتم التواصل بخصوص الموضوع مع السيد محمود عباس بدعوى أنه رئيس كل الفلسطينيين، في حين معروف عن الرجل أنه ضد المقاومة من الأساس، فضلا عن أنه رئيس افتراضي وليس رئيسا حقيقيا، لأنه لا توجد للفلسطينيين دولة. علما بأن الرجل لا يتحرك إلا بمقتضى تصريح من «دولة» إسرائىل؟ ولماذا تخلت الإدارة المصرية الراهنة عند التقليد الذي اتبعته طوال العقود الأخيرة، وبمقتضاه كانت تدعى فصائل المقاومة وفي مقدمتها حماس والجهاد للتشاور حول مبادرات التوافق الفلسطيني أو التفاوض مع إسرائيل؟ وإلى أي مدى أثر صراع السلطة القائمة في مصر مع الإخوان على قرار مصر تجاهل التشاور مع حماس بخصوص المبادرة قبل إعلانها؟ وهل من الحكمة وحسن التدبير أن يجرى الخلط بين الصراع الداخلي مع الإخوان في مصر وبين موقفها الاستراتيجي إزاء القضية الفلسطينية؟

أخيرا هل من اللائق أن يلح الموقف الرسمي المصري على لوم الفصائل التي رفضت المبادرة، في حين أن الغارات الإسرائيلية الوحشية مستمرة على غزة، والدماء الغزيرة تتدفق في مختلف مدن القطاع؟ وأما كان من الأحكم أن يستعلى الموقف المصري فوق الحسابات والمرارات الخاصة، متبنيا خطابا أكثر رصانة ووضوحا في مواجهة العدوان؟

(4)

لا يستطيع المرء أن يخفى شعوره بالخجل حين يقارن بين لغة اللوم والتأنيب التي توجه من مصر ضد الفلسطينيين، وبين لغة التفاهم والدعوة إلى الانصات لمطالب المقاومة التي تنطلق في إسرائيل، أتحدث عن مقالة نشرتها صحيفة «هاآرتس» في 20/7 لواحد من أبرز كتابها هو جدعون ليفى، عنوان المقالة كان كالتالي: ماذا تريد حماس حقا؟ وخلاصتها أن الرجل لم يعترض على هجاء حماس وتوجيه مختلف الاتهامات لها، لكنه أضاف أنه مع ذلك فمن المهم للغاية الإنصات إليها خصوصا حين أعلنت موقفها ومعها حركة الجهاد الإسلامي للخروج من الأزمة الراهنة. إذ دعت الحركتان اللتان تقودان المقاومة الأساسية في القطاع إلى هدنة لمدة عشر سنوات، يتم خلالها التجاوب مع عشرة مطالب هي: انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع ــ إطلاق سراح الذين اعتقلتهم إسرائيل بعد قتل المستوطنين الثلاثة خصوصا الـ57 شخصا الذين سبق الإفراج عنهم في صفقة الجندي جلعاد شاليط ــ وقف الحصار وفتح المعابر ــ تمكين المزارعين الفلسطينيين من زراعة أراضيهم خارج السور ــ توسيع مساحة الصيد التي يسمح للفلسطينيين بالعمل فيها ــ فتح ميناء غزة تحت رعاية الأمم المتحدة وفتح معبر رفح وإبقاؤه تحت الإشراف الدولي ــ إغلاق المجال الجوي الفلسطيني أمام الطيران الإسرائيلي ــ السماح لأبناء القطاع بزيارة القدس والصلاة في المسجد الأقصى ــ فتح المنطقة الصناعية بالقطاع ــ عدم تدخل إسرائيل في الشأن الداخلي الفلسطيني ووقف اعتراضاتها على حكومة الوحدة بين الضفة والقطاع.

ختم الكاتب مقالته بقوله إن حماس قصفت من إسرائيل وأهينت من مصر. ومع ذلك فإن الطلبات التي قدمتها مع حركة الجهاد تبدو منطقية ومشروعة، وتشكل مخرجا حقيقيا من الأزمة الراهنة، في حين أن الحل العسكري الذي تتبناه إسرائيل يبقى على الأزمة أمام طريق مسدود. إذ يفاقمها ولا يحلها.
أليس من المفارقات أن نسمع ذلك الكلام العاقل من إسرائيل في حين نسمع نقيضه من مصر؟

(بوابة الشروق المصرية)
التعليقات (0)