صحافة دولية

أكاديمي أمريكي: إيباك تدفع أمريكا لسياسات لا أخلاقية

"مشهد غرائبي" لمدى النفوذ الذي تتمتع به "إيباك" في السياسة الأمريكية - أرشيفية
"مشهد غرائبي" لمدى النفوذ الذي تتمتع به "إيباك" في السياسة الأمريكية - أرشيفية
كتب أستاذ الشؤون الدولية في جامعة هارفارد البروفيسور ستيفين والت في موقع "ذي وورلد بوست" مقالا مطولا ناقش فيه الدور الذي تلعبه لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية "إيباك" AIPAC في السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل، والذي يقول إن "هذا الدور في المحصلة لا يخدم إسرائيل نفسها".

ويبدأ مقالته بالسخرية من الاسم الذي أطلق على حرب غزة "عملية الجرف الصامد"، قائلا إن الاسم الذي كان يجب أن تحمله هذه العملية هو "ديجافو"، حيث هي تكرار لمرات سابقة كثيرة تستخدم فيها إسرائيل الأسلحة التي تقدمها لها الولايات المتحدة لتقتل فيها الفلسطينيين المعدمين في غزة، حيث وصل عدد القتلى إلى 500.

وكالعادة تقف أمريكا مع إسرائيل بالرغم من أن معظم الزعامات الأمريكية تعلم أن إسرائيل هي من أشعل فتيل هذه الجولة من العنف، ولا تمارس ضبط النفس، وأن أفعالها تجعل واشنطن تظهر مجرمة ومنافقة في عيون العالم، على حد قول وات.

ويقول والت إن هذا المشهد الغرائبي شهادة لمدى النفوذ الذي تتمتع به "إيباك" والعناصر الأخرى المتشددة في مجموعة الضغط الإسرائيلية، "فليس هناك أي تفسير آخر للتصرفات الانبطاحية للكونغرس -بما فيهم أعضاء تقدميين يدعون دعمهم لحقوق الإنسان- ولإدارة أوباما المنافقة".

وذكر أن السبب المباشر لهذه الجولة من سفك الدماء من جانب واحد كانت خطف وقتل ثلاثة مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، والتي أتبعها المستوطنون بخطف فلسطيني وحرقه، وبحسب تقارير "جي جي غولدبرغ" في الصحيفة اليهودية "فوروارد" اتهمت حكومة نتنياهو "حماس" دون دليل، وتصرفت كأن المستوطنين المخطوفين كانوا أحياء لعدة أسابيع بالرغم من وجود أدلة على وفاتهم، وفعلت هذا لتحريك غضب شعبي ضد العرب لتبرير أفعالها الانتقامية في الضفة الغربية وغزة.

ويتساءل عن سبب شن الحرب على غزة، ويجيب بما أشار إليه ناثان ثرال من مجموعة الأزمات الدولية من أن ذهاب نتنياهو للحرب في غزة ليس له علاقة بالانتقام، ولا رغبة في حماية إسرائيل من الصواريخ، والتي لم تستخدم خلال السنتين الماضيتين، وهي صواريخ غير فعالة على أي حال، ولكن الهدف الأساسي لنتنياهو كان تقويض حكومة الوحدة الوطنية التي انبثقت عن مصالحة بين "فتح" و"حماس".

وكون نتنياهو يؤمن "بإسرائيل الكبرى"، فإن آخر ما يريد أن يراه هو قيادة فلسطينية واحدة تضغط عليه في أن يكون جادا في حل الدولتين، ولذلك أراد أن يضرب "حماس" ويدق إسفينا بين الفصيلين الفلسطينيين، بحسب والت.  

ويقول إنه خلف كل هذا يلوح الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين الذي قارب عقده الخامس، فلم يكتف الإسرائيليون بالتطهير العرقي الذي قاموا به عام 1948، وعام 1967 للفلسطينيين، حتى أصبح 82% من فلسطين الانتداب تحت سيطرتهم، حيث شجعت كل الحكومات الإسرائيلية بعد 1967 المستوطنين على بناء المستوطنات، وتوسيعها في الضفة والقدس الشرقية، وقدمت المساعدات
لـ 600 ألف يهودي يعيشون فيها خارقين بذلك "معاهدة جنيف الرابعة".

وصرح نتنياهو قبل أسبوعين بأنه ضد حل الدولتين، وأنه لن يسمح به طالما هو في الحكم. "وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن نتنياهو هو أكثر أعضاء حكومته اعتدالا، وأن الحكومات الإسرائيلية تتقدم بثبات نحو اليمين، فإن حل الدولتين أصبح ضربا من الخيال"، وفق والت.

والأسوأ من هذا كله، بحسب الكاتب، هو أن قتل مئات الفلسطينيين وعدد ضئيل من الإسرائيليين لن يغير شيئا، فـ"حماس" لن تحل نفسها، وعندما تنتهي هذه الجولة الأخيرة من القتال سيبقى
 4.4 مليون فلسطيني في الضفة الغربية وغزة سجناء لدى إسرائيل، ويحرمون من حقوق الإنسان الأساسية، ولكنهم لن يغادروا، وخاصة مع وجود الفوضى في مناطق أخرى من الشرق الأوسط.

ثم يقول إنه في النهاية سيتم الاتفاق على وقف إطلاق نار جديد، وسيدفن الموتى ويعالج الجرحى، والأنفاق التي تدمر اليوم سيعاد بناؤها، وستقوم "حماس" بتجديد مخزونها من الصواريخ، وسيكون المسرح جاهزا لجولة أخرى من القتال، وستكون إسرائيل تعمقت أكثر في طريقها لتصبح دولة "أبارتهايد" كاملة النضوج.

هذا بينما يدعم السياسيون الأمريكيون حرب إسرائيل الوحشية، والتي تهدف بشكل أساسي ليس الدفاع عن إسرائيل، ولكن لحماية جهودها الطويلة في ابتلاع الضفة الغربية. والغريب في الأمر أن كل الرؤساء الأمريكان يؤيدون إسرائيل دون تحفظ منذ لندن جونسون الذي كان معارضا لسياسية الاستيطان الإسرائيلية، وأن آخر ثلاثة رؤساء حاولوا التوصل إلى حل الدولتين الذي جعلته السياسة الإسرائيلية مستحيلا.

ويشير الكاتب إلى أن "إيباك" تقوم بمطالبة أمريكا بأن تتناغم مع تل أبيب كلما اشتعلت الحرب، وحتى عندما تبادر بها إسرائيل، ويسارع الكونغرس لتمرير القوانين التي تقر ما تريد إسرائيل فعله، ومع أن معظم القتلى من الفلسطينيين، يسارع البيت الأبيض للإعلان بأن "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها"، وأوباما نفسه غير مستعد للذهاب أبعد من التعبير عن "قلقه" حول ما يدور.

ويعلق قائلا: "صحيح أن للإسرائيلين الحق في الدفاع عن أنفسهم، ولكن الفلسطينيين ليس لهم الحق فقط في الدفاع عن أنفسهم، بل لهم الحق في مقاومة الاحتلال أيضا. وأعني أنه لا يحق لإسرائيل أن تبقي الفلسطينيين خاضعين لها دوما، ولكنك لن تجد أحدا في كابيتول هيل يعترف بهذه الحقيقة البسيطة".

ويستنتج أن سبب الإفلاس الأخلاقي والعجز في السياسة الأمريكية، يعود للنفوذ الذي تتمتع به جماعات الضغط الإسرائيلية. "ويعرف باراك أوباما جيدا أنه لو وقف مع الفلسطينيين في غزة وانتقد أفعال إسرائيل بأي شكل من الأشكال، فستفتح جماعات الضغط نيرانها عليه، وفرصته في الحصول على تفويض من الكونغرس لصفقة مع إيران ستتبخر"، على حد قول الكاتب.

وفي نفس الوقت، يعرف السياسيون في مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وحتى التقدميون منهم مثل السيناتور إليزابيث وارن، بأن التحرك السياسي الذكي هو أن تصوت لتلك القرارت التي تدعم إسرائيل، ويفهمون جيدا أن إبداء أقل علامات الاستقلال في التفكير ستعرض الواحد منهم لمنافسة غريم ممول جيدا في الانتخابات القادمة.

وعلى الأقل سيضطرون للإجابة عن الكثير من الاتصالات التلفونية والرسائل الغاضبة، وغالبا ما سيخذلهم بعض زملائهم في الكونغرس. إذن الطريق الأكثر أمنا هو أن تكرر نفس الابتهالات البالية حول ما يدعى "القيم المشتركة" بين أمريكا وإسرائيل، وتنتظر حتى تنتهي الأزمة. كل هذا ويستغرب الناس لماذا لم يعد أحد يحترم الكونغرس؟!

ولكن، ومن المؤكد أن نفوذ مجموعات الضغط ليس بالقوة الذي كانت عليه، فقد تغير الخطاب العام عن إسرائيل والسياسة الأمريكية تجاهها، وحتى مجموعات الضغط نفسها تغيرت في السنوات القليلة الماضية. فالمدونون والإعلاميون المتمرسون أمثال أندرو سوليفان، وجوان كول، وبيتر بينارت و إم جي روسنبرغ.. وحتى توماس فريدمان في نيويورك تايمز، أصبحوا مستعدين للكتابة بشكل صريح عما يحصل في الشرق الأوسط. "ومع أن معظم الأمريكيين يؤيدون وجود إسرائيل -كما أفعل أنا- إلا أن تعاطفهم مع دولة تتصرف مثل جالوت أكثر منها مثل داود بدأ يتضاءل".

وتضم صفوف المتشككين عددا متناميا من الشباب اليهود الأمريكيين الذين لا يجدون ما يعجبهم في أفعال إسرائيل، وهم أقل إخلاصا لإسرائيل من الأجيال السابقة، ومجموعات السلام مثل (جي ستريت) و(جويش فويس فور بيس) تعكس توجها وتبين أن الرأي اليهودي الأمريكي ليس موحدا.

ويقول: "لكن ومع هذا فإن الإيباك وغيرها من مجموعات الضغط المتشددة فشلت في إقناع إدارة
أوباما بالتدخل في سوريا، وفشلت في إقناع بوش وأوباما بتوجيه ضربة استباقية للمنشآت النووية الإيرانية، كما فشلوا في تعطيل المفاوضات النووية مع إيران لحد الآن، وليس ذلك لقلة محاولة منهم، فدفع الولايات المتحدة لحرب أخرى في الشرق الأوسط هي أمر كبير لأي مجموعة ضغط أن تحققه، ولكن هذه الإخفاقات تبين أنه حتى مجموعة الضغط الأضخم هذه لا تستطيع أن تحصل على ما تريد دائما".

ولكن مجموعة الضغط الإسرائيلية لا يزال بوسعها إبقاء تدفق المساعدات الأمريكية البالغة ثلاثة مليارات دولار في السنة، ولا تزال ناجحة في منع رؤساء أمريكا من الضغط على إسرائيل، ولا تزال تستطيع أن تجعل أمريكا تلوح بالفيتو كلما حاول مجلس الأمن انتقاد أي فعل تقوم به إسرائيل.

وهذا ما يوضح لماذا لم تستطع إدارة أوباما تحقيق أي تقدم في مشروع الدولتين "فإن كانت إسرائيل تحصل على المساعدات الأمريكية السخية مهما فعلت، فما الذي سيجعل قادتها ينصاعون لأي مطالب؟ ولم يكن بإمكان أوباما أو وزير الخارجية جون كيري إلا استجداء نتنياهو، ورأينا مدى نجاح ذلك"، بحسب الكاتب.

وهذا الوضع مأساوي لجميع من له علاقة وحتى إسرائيل نفسها، لأن "إسرائيل الكبرى" لن تكون إلا دولة "أبارتهايد"، ودولة تقوم على القومية الإثنية الضيقة، وإقصاء الآخر، ولا تصلح للقرن الحادي والعشرين. فلا بد وأن يطالب الرعايا العرب في إسرائيل بالمساواة، وكما قال رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت عام 2007: أنه عندما يحصل ذلك "تنتهي دولة إسرائيل".

ويقول الكاتب: "للأسف، فإن إيباك وغيرها من مجموعات الضغط لا تزال تعاني من حالة ضيق الرؤية. ولأن الدفاع عن إسرائيل بغض النظر عما تفعله، هي الوظيفة التي من أجلها أوجدت هذه الجماعات، فهم لا يستطيعون أن يدركوا أنهم بأفعالهم يساعدون إسرائيل في أن تسير نحو السقوط إلى الهاوية. وكذلك أعضاء الكونغرس الذين يوقعون القرارات التي ترسمها لهم الإيباك فهم ليسوا بأصدقاء لإسرائيل، إنهم أصدقاء مزورون يتظاهرون بحرصهم، ولكنهم في الواقع ليس لهم هم سوى النجاح في الانتخابات القادمة".

ويتابع: "سينظر المؤرخون إلى هذه الفترة وسيتساءلون: كيف كان يمكن لسياسة الولايات المتحدة في أمريكا في الشرق الأوسط أن تكون بهذه الدرجة من عدم الفعالية، ومتعارضة مع القيم المعلنة، وحتى مع المصالح الاستراتيجية؟ والجواب يكمن في طبيعة النظام السياسي الأمريكي والذي يسمح للمجموعات المنظمة جيدا، والممولة تمويلا جيدا أن يكون لها نفوذ كبير في كابيتول هيل والبيت الأبيض. والنتيجة سياسة سيئة لكل من يهمه الأمر: وأكثرهم تضررا الفلسطينيون، ولكن الولايات المتحدة واسرائيل أيضا متضررتان. وحتى يتم الحد من نفوذ مجموعات الضغط أو يكون سياسيونا أقوى مما هم عليه الآن، فمن الأجدى أن يعتاد الأمريكان الذين ينتظرون نتائج أفضل في الشرق الأوسط على خيبة الأمل وتوقع المزيد من المشاكل".
التعليقات (0)