كتاب عربي 21

الحرب على غزة.. وإرهاصات المستقبل

محمد جودة
1300x600
1300x600
الموقف الصهيونى المعلن برفض مبادرة كيري لوقف اطلاق النار والتعديلات التي يطالب بها الصهاينة لقبول المبادرة والمتمثلة فى نزع سلاح المقاومة، وتدمير الأنفاق، وانهاء الصواريخ يدل على مدى عنجهية وصلف الصهاينة خاصة حينما يتعلق بالعرب والفلسطينيين.  ومع أن نتائج المواجهة الدائرة بين قوات المقاومة الفلسطينية وجيش الصهاينة منذ حوالي اسبوعين توضح بجلاء رجحان كفة المقاومة، إلا أن القيادة السياسية الصهيونية ما زالت تتصرف وكأنها فى موقع الانتصار وتريد فرض شروطها لقبول وقف اطلاق النار، بل وجعل الفلسطينيين يدفعون ثمن الانتصار الذى أحرزوه!

رفض الصهاينة قبول شروط المقاومة لوقف اطلاق النار ربما يكون وراءه المراهنة على عدة أمور اهمها: المراهنة على الوقت، آملين فى انهاك قوى المقاومة، ونفاد مخزونها من العتاد والذخائر بما يمكن القوات الصهيونية من تحقيق اختراق عسكري يقلب الموازين، ويجبر المقاومة على التنازل. الأمر الثاني: هو المراهنة على أن يؤدي امتداد القتال لفترة طويلة الى انهيار الجبهة الداخلية فى غزة نتيجة لتنامي الضغط الشعبي على المقاومة بسبب المعاناة التي يعانيها أبناء غزة نتيجة للتهجير القسري لعشرات الآلاف من سكان المناطق الحدودية من بيوتهم.  والأمر الثالث: هو المراهنة على تصعيد الضغوط العربية والإقليمية والدولية على قوى المقاومة بما يجبرها على التنازل والقبول بوقف اطلاق النار بالشروط الصهيونية أو على الأقل بأقل قدر ممكن من الإنجازات السياسية. 
 
أما بالنسبة للأمر الأول، فإن هنالك عدة اعتبارات ترجح أن امتداد المعركة لفترة أطول  سيكون من الناحية العسكرية لصالح المقاومة لا ضدها، فالمقاومة الفلسطينية أكدت منذ بداية العدوان أنها قد أعدت نفسها لمعركة طويلة الأمد وتصرح بأنها لم تستخدم الا النزر اليسير من إمكاناتها العسكرية. ومن ناحية أخرى فإن المقاومة تملك خاصتين هامتين تؤثران بشكل كبير فى سير المعارك ونتائجها وهما امتلاك زمام المبادرة، وعنصر المباغتة.  فللمرة الأولى فى تاريخ الصراع معه يجد الجيش الصهيونى نفسه فى موقع الانتظار لموعد ومكان الضربة القادمة، ولا توجد لديه خطة واضحة لمهاجمة قوات المقاومة لأنه ببساطة لا يعرف أين توجد ولا بم تفكر. كذلك فإن امتلاك عنصر المباغتة يمكن افراد المقاومة من ضرب قوات العدو فى الأماكن التى توقع به أكبر الخسائر بما يؤدى الى تدمير معنويات الجنود وبالتالي تخفيض قدراتهم القتالية. يضاف الى ذلك أن المقاومة نجحت فى تحقيق نقلة استراتيجة فى ادارة الحرب مع جيش الصهاينة تتمثل فى نقل ساحة العمليات العسكرية الى داخل حدود فلسطين المحتلة مع إبقاء الكيان الصهيوني كله تحت مرمى النيران.  فالعمليات العسكرية  بما فيها من قتل وأسر للجنود والضباط الصهاينة يكاد معظمها يدور داخل حدود فلسطين المحتلة دون أن ينجح الجيش الصهيوني في التقدم لمسافة تذكر في أراضي قطاع غزة. هذا الأمر بالإضافة إلى تأثيره الهائل على معنويات أفراد الجيش الصهيونى وبالتالي على قدراتهم القتالية ، فإنه يضرب في الصميم إحدى الركائز الهامة لنظرية الأمن الصهيونى والمتمثلة فى نقل المعارك دائما الى أراضي "العدو" لحماية المجتمع الصهيوني، والذي لا يملك عمقا استراتيجيا، من التأثير المباشر للعمليات العسكرية. الأمر الأخير الذى تتفوق فيه المقاومة الفلسطينية على الجيش الصهيوني هو مقاتلوها والذين يمتلكون روحا قتالية عالية، ودرجة عالية من التصميم والشجاعة، يغذيها انتماء قوي لدينهم وأمتهم ورغبة هائلة فى الشهادة، هذا بالإضافة الى مستوى عال من التدريب  والتجهيز والانضباط. في المقابل فإن الجنود الصهاينة، والذين ينتمون فى مجملهم الى الجيل الثالث من المستوطنين الصهاينة، مذعورون ويفتقرون الى الانتماء العقيدي، والروح القتالية العالية، والرغبة فى التضحية التى تميز بها مقاتلوهم السابقين من جيلى التأسيس والبناء. 

أما الأمر الثاني وهو المراهنة على انكسار الجبهة الداخلية للفلسطينيين،  بسبب الإمعان فى القتل وتهجير الناس من بيوتهم، لخلق أزمات داخلية تدفع بالوضع الداخلي الفلسطيني إلى الإنفجار، فإن حسابات الصهاينة في هذا ايضا خاطئة.  فالفلسطينيون في قطاع غزة مهجرون  منذ أكثر من ستين عاما، ويقتلون فى كل يوم بسبب وبدون سبب وما هذا النزوح والقتل الا حلقة صغيرة فى سلسلة طويلة مماثلة.  بالإضافة الى ذلك فهم محاصرون ومجوعون منذ ثمانية أعوام، ذاقوا خلالها كل أنواع العذاب، ومورست ضدهم اشد درجات السادية، تحت انظار العالم ومسامعه دون أن يكترث أحد. ماذا بقى لهم ليخسروه. ظهورهم الى الحائط ، وانسدت أمامهم السبل،  وليس لهم الا الإنفجار فى وجوه قاتليهم. والمتابع لأحوال المهجرين قسرا من بيوتهم الى مدارس وكالة الغوث فى كافة مخيمات اللجوء فى قطاع غزة، يشاهد بوضوح مدى التفافهم حول المقاومة وصلابة ارادتهم ورغبتهم فى الانتقام واسترداد حقوقهم خاصة وهم يشعرون أن مقاومتهم، وربما للمرة الأولى، قادرة على تحقيق ذلك وكسر عدوهم. الأمر الذى لم يلتفت اليه المراقبون أن هذا العدوان أدى الى وبشكل رائع الى التئام لحمة الفلسطينيين فى قطاع غزة خلف المقاومة على اختلاف توجهاتهم وانتمائاتهم السياسية، تلك اللحمة التي أصابها شرخ كبير في أعقاب الانقسام الذى ابتلي به قطاع غزة عام 2007 والذي ربما كان سيتطلب علاجه سنوات طويلة وجهودا كبيرة لولا هذا العدوان الذي وحد الجميع حول راية المقاومة ودمل الجراح بشكل ما كان يتوقعه أحد.  لم يقتصر هذا التأثير على ابناء الشعب الفلسطينى وإنما امتد ليطال مواقف قيادته السياسية فى رام االله والتي تبنت مطالب المقاومة بشكل كامل ووقفت فى خندق واحد مع المقاومة، على الرغم من التناقض الجذري بينهما، فى مشهد تكامل فيه برنامج المقاومة مع برنامج منظمة التحرير الأمر الذي ربما كان له دور فى تصاعد الهبة الشعبية فى الضفة الغربية فى الأيام الماضية والتي قد تستمر في تصاعدها لتتحول إلى انتفاضة حقيقية.

أما فيما يتعلق بالضغوط الدولية والاقليمية والعربية فمن البديهى أن قدرة أى طرف على الضغط على المقاومة  تتوقف على مدى ارتباط  قوى المقاومة به واعتمادها عليه، بالإضافة الى الإمكانات الفعلية التى يملكها الطرف الضاغط والتى تمكنه من فرض ما يريد. فيما يتعلق بالقوى الدولية فالمقاومة فى عمومها غير مرتبطة بها ولا تعتمد عليها بل ان القوى الدولية في عمومها تقف منها موقف العداء والشريك فى الحصار المفروض عليها منذ حوالى ثمان سنوات، وعليه فإن قدرة هذه القوى على الضغط المباشر على المقاومة محدودة.  أما فيما يتعلق بالقوى الإقليمية، فالقوتان الإقليميتان اللتان تملكان القدرة على التأثير فى مجريات الأمور وهما تركيا وإيران داعمتان للحق الفلسطيني وللمقاومة الفلسطينية، ومن غير المرجح أن يتم استخدامهما للضغط على المقاومة لتقديم تنازلات لقاء صفقات فى ملفات أخرى، فالدولتان مأزومتان فى علاقتهما مع  الغرب وأمريكا على وجه الخصوص، كل على طريقته، والانتصار الفلسطيني يحقق لكل منهما مكاسب استراتيجية تفوق المكاسب الصغيرة التى من الممكن تحقيقها من خلال صفقات فى ملفات أخرى.  أما الوضع العربى ففيما عدا دولة قطر، فقد اختارت الدول العربية المؤثرة جميعها، بما فيها مصر، أن تقف فى سابقة تاريخية  إلى جانب الكيان الصهيونى ضد الحق الفلسطيني.  وعلى الرغم من سلبيات هذا الأمر المتعددة الا أنه لا يخلو من ايجابيات،  لعل أحدها هو تحرير المقاومة الفلسطينية من الضغوط العربية والتي كان من الممكن أن تتعرض لها لو كانت بعض الدول المؤثرة داعمة أو محتضنة لها.  

خلاصة القول أن المقاومة الفلسطينية لم تكن متحررة يوما من الضغوط العربية والإقليمية والدولية كما هى عليه اليوم لذا فإنه من الأرجح ان تكون المراهنة على هذا الجانب مراهنة خاسرة.

والآن فى حال صدقت هذه التقديرات، الى أين تتجه الأمور؟ 

الواضح أن الجيش الصهيونى وكذا قيادته السياسية فى أزمة.  فالجيش غير قادر على القضاء على  القوة العسكرية للمقاومة بل أكثر من ذلك فإنه غير قادر على تحقيق أي من الأهداف المعلنة للحرب، والتي حرصت القيادة السياسية على أن تكون صغيرة ومحدودة خوفا من المسائلة فيما بعد، والتي تمثلت فى ايقاف اطلاق الصواريخ وتدمير الأنفاق. الكيان الصهيونى كله تحت النار والشرف العسكري لجيشه ممرغ فى التراب، وللمرة الأولى في تاريخه يتم عزله عن العالم واغلاق مجاله الجوي أمام الطيران المدني نتيجة لتواصل سقوط صواريخ المقاومة على مطاره الدولي فى اللد. الخسائر الإقتصادية تتراكم وبلغت المليارات والكثيرون من مستوطنيه فى الملاجئ. الغضب الشعبى سيبلغ ذروته حينما يطلع الجمهور الصهيونى على حجم الخسائر البشرية التى منى بها جيشهم والتى تحرص قيادته السياسية على اخفائها.   

على الرغم من ذلك  فلربما تقرر القيادة السياسية الصهيونية فى هذه المرحلة عدم الرضوخ لمطالب المقاومة  والإمعان فى قتل الأطفال والنساء والمدنيين واطالة أمد العمليات العسكرية ولكنهم، رغم المكابرة، سيدركون ان آجلا أو عاجلا، أن ذلك لن يقودهم الا الى مزيد من الخسائر وسيراكم النتائج السلبية على الجيش والمجتمع الصهيونى وربما أدى الى أن يضطروا الى دفع ثمن أكبر مما هو مطلوب الآن...... فماذا عساهم فاعلين حين يدركون ذلك؟  الأرجح أنهم سيقومون بأحد أمرين ، إما الرضوخ لمطالب المقاومة  بما يعنيه من اعتراف بالهزيمة، وهو أمر مستبعد لمن خبر صلفهم وغرورهم وعنجهيتهم، وإما الإصرار على رفض مطالب المقاومة الأمر الذى سيؤدى الى حدوث إنسداد فى الأفق السياسي الأمر الذى قد بؤدى الى انسحاب قوات الجيش الصهيونية من المناطق الحدودية ووقف اطلاق النار من طرف واحد بحجة تحقيق جيشهم لأهدافه، الأمر الذى المحت الى امكانية حدوثه وزيرتهم تسيفى ليفنى  قبل ثلاثة أيام، والذى ستتزايد احتمالات حدوثه اذا ما تصاعدت الهبة الشعبية فى الضفة الغربية وتحولت الى انتفاضة ثالثة. وفى حال قررت القيادة السياسية الصهيونية المضى فى هذا الخيار، فإن المقاومة الفلسطينية ستجد نفسها امام خيارات صعبة، فإن قبلت بوقف اطلاق النار فإن أيا من مطالبها لن يتحقق ولن يتغير شيئ على الأرض وهذا سيمثل هزيمة سياسية كبيرة وفشل فى استثمار الإنجاز العسكرى المتميز للمقاومة. وإن استمرت فى إطلاق النار فإنها ستتعرض لضغوط دولية كبيرة ربما تغير من مسار الأحداث.  الوقت يمضى ثقيلا على الطرفين، والمعارك لا يمكن أن تستمر الى ما لا نهاية،  ولا بد لأحدهما، فى حال فشلت الجهود السياسية فى الوصول الى اتفاق يرضى كليهما، من أن يحسم المعركة بشكل يرغم الطرف الآخر على الرضوخ لشروطه. خيارات الجيش الصهيونى محدودة ولا يمكن له أن يفعل أكثر مما فعل سوى الإمعان فى قتل النساء والأطفال والشيوخ وهدم المنازل فوق رؤوس أصحابها، وهذا لن يدفع المقاومة الى الركوع والإستسلام. يبدو أن المقاومة ، كما هى من بداية المعارك، من يملك عنصر المبادرة، وما زالت خياراتها متعدده، اذا ما أخذنا فى الأعتبار الإمكانات التى تملكها ولم  تقم بتوظيفها فى المعركة بعد. وفى حال تصاعدت الهبة الشعبية فى الضفة الغربية وتحولت الى انتفاضة ثالثة فإن هذا سيضع الكيان الصهيونى بين فكى كماشة ستغير الموازين بشكل كامل. الأيام القليلة القادمة حبلى بالمفاجآت، ويبدو أن دماء الشهداء، وآهات الجرحى،  ودموع الثكالى، ودعاء الأيتام والأرامل فى شهر رمضان لن تضيع سدى.
التعليقات (0)