كتاب عربي 21

انتخابات برًّ هَكًّاكَة

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
 "بر هكاكة "عبارة محلية تونسية  اشتهرت في حقل الغناء الشعبي  وتعني سر كما تيسر أو افعل ما بدا لك .. ومكنونها لا تفرط في الحيطة أو لا تبالغ في الاهتمام بالتفاصيل فالأمر لا يستدعي كل الجدية التي تقتضيها الأمور العظيمة. لذلك نرى أن الرغي الإعلامي المحيط بالانتخابات الآن يغطي فقرا رهيبا في البرامج الانتخابية بقسميها بما يجعلها في الجوهر تمرينا بليدا في فن الممكن. وهو التعريف التبريري للسياسة في تونس من ضمن تعاريف كثيرة انتجتها الفلسفات السياسة عبر التاريخ. يتقدم الجميع ولسان حاله يقول لجمهور محتقر مبدئيا انتخبونا ثم سننظر ما نفعل بكم لاحقا.

 إنهم يتقدمون بأقل الحلول عبقرية كنوع من الإلزام بالحد الأدنى الجمالي في بناء نموذج الديمقراطية القادمة بالممكن لا بالمرغوب. 

مُثُلُ الثورة وشروط اللحظة 

يتحجج الحزبيون خاصة والسياسيون الواقعيون جدا عامة بأن مسار التنازلات المؤلمة عن المثل الكبرى هو مسار معتاد في كل الثورات فبين ما تطرحه الثورة من أحلام كبيرة  وبين ما يمكن إنجازه في الواقع مسافة لا بد من تقديرها ولدى الجميع قائمته من المبررات للوصول إلى مرحلة القسمة مع النظام القديم. بينما يقوم مثاليون آخرون بمعارضتهم بالقول أن الشعوب تبني بالمثل والمثل مكلفة نعم ولكنها بناءة للتاريخ والرموز وجاء انتصار غزة غير الواقعي ليزيد في الاحتمال المثالي فلا أحد رشح المقاومة في لبنان  سنة 2006 أو في غزة 2014 لتحقق انتصارا عسكريا من عدم الإمكانيات.

 مثلما لم يرشح أحد شعب تونس أن يطلق موجة الربيع العربي لتهز المنطقة والعالم و تعيد ألق المثاليات الكبرى. 

والواقع أن الضغوط الخارجية والمؤامرات على الربيع العربي وفي قلبه الحالة التونسية لم تتوقف منذ سنة 2011 والمتآمرون أكثر من الأصدقاء والحلفاء. ولكن إلى حد يمكن اعتماد هذه الحجة للتقدم للانتخابات بلا برامج ولا رؤى واضحة تسمح للناس بالاختيار بين برامج وليس بين أشخاص أو أيديولوجيات متكلسة منذ ما قبل الثورة.

هل تعرف الأحزاب السياسية ما هو المطلوب منها ؟ 

إن المثال واضح ووضوحه يجعل منه إمكانا للإنجاز وليس مثالا للتعليق أو المزايدة لذلك فان مطالبة الأحزاب بتقديم برامجها لا يدخل في باب المزايدة أو المثالية بقدر ما هو تذكير لها بهروبها من الاستحقاقات الثورية الواضحة البسيطة وإنهاء التحجج بالضغوط الخارجية. واتهام من يعارضها بالجلوس على الربوة أو جهل حركة الواقع.

مطالب الثورة و بدائلها هي الدولة الاجتماعية وسواء اتخذت شكل النموذج الفرنسي أو الإنجليزي أو الاسكندينافي أو اخترعت تجربتها ومثالها فإنها تظل مصرة على تحقيق توازنات ضرورية بين الجهات المفقرة في مجالات الخدمة العامة و تأسيس مصادر الرزق للرد على الشعار الأوضح " التشغيل استحقاق". 

في كل استحقاق سياسي تذكر الثورة بمطالبها وتضعها أمام السياسيين ولكن ماذا نجد في الخطاب والممارسة اليومية؟ استعادة الصراعات الأيديولوجية والفكرية السابقة للثورة وهي صراعات حول كيفية التفكير في التفكير في تخيل البدائل ولا تتعلق بالتفكير في الحلول العملية التي ينتظرها غير المشغولين بمثل تلك الصراعات التي لم تنتج ثورة بقدر ما عملت على تأجيلها ثم التهوين من شانها وتحقير القائمين بها.

انشغل النخبويون بصراعاتهم منذ ما قبل الثورة ولم تنفذ إليهم الثورة لتخرجهم منها وعلى أبواب الاستحقاق الانتخابي الذي ينتظر منه أن يؤسس الجمهورية الثانية على دستور ثان يجد الناخب نفسه أمام نفس التقسيمات التي خاضت الانتخابات الأولى سنة 2011. اليساري ظل يساريا والإسلامي ظل إسلاميا والقومي العروبي يستمرأ نظرية المؤامرة التي تخلصه من نقد تجاربه الوحدوية الفاشلة على طول الخريطة العربية وما بينهما فجوة غير قابلة للردم بل هي آخذة في الاتساع بل تنذر بحرب أهلية.

بل إن الصراع الداخلي بين الإيديولوجيات القديمة قد قسم الموقف من فلسطين نفسها فقد عرت حرب غزة مواقف لم يكن لها لتخرج للعلن لولا التكايد السياسي والعنف الكامن في المواقف الذي جعل غزة في قمة حربها موضوعا للامتهان من قبل المعادين لحركة حماس لمجرد أنها يمكن أن تفيد عدوا سياسيا داخليا خاصة وهي تحاجج الانقلاب العسكري المصري وتفضح تواطؤه مع العدو ونحن نعرف قبل ذلك أن أطرافا سياسية تونسية اعتبرت ولا تزال الانقلاب العسكري المصري هو وسيلة الإنقاذ الوحيدة لها من هيمنة التيار الإسلامي ومن وجوده نفسه وهي التي دعت الجيش التونسي للانقلاب على الشرعية في وقت قريب.
  
الخلاف حول جوهر الديمقراطية والدولة المطلوبة شعبيا وراء الرداءة السائدة

هناك اختلاف حول جوهر العملية الديمقراطية نفسها بين المتحاربين فالأحزاب بنيت على قاعدة من الإقصاء السياسي الجذري للخصوم وتشتغل على هذا الأساس لذلك تستقوي بالنظام القديم بل يذهب البعض إلى حد الحنين ثم العمل على الانقلاب العسكري ولو بالاستقواء بجهات خارجية فقد سمعنا من يستنجد بجيش أجنبي لتغيير المعادلة في الداخل.

في ظل هذه الرداءة تم تقديم العملي الانتخابي في اختيار المرشحين على حساب الكفاءة والمقدرة فولاء الأشخاص للتنظيم الحزبي غلب الاختيار وقد كان مطلوبا في هذه المرحلة تقديم كفاءات علمية وإدارية على الموالين لأن المهمة المنتظرة من هذا المجلس هي تأسيس فعلي لدولة جدية لا تعيد تزييت الماكينة الاقتصادية القديمة بل فرض خيارات جدية في مرحلة بناء العدالة الاجتماعية وليس مجرد ملء المجلس بخيارات حزبية لا تتمتع بكفاءة من أي نوع.

وحتى إذا وجدت في لحظة الإعلان عن القائمات وجوه محترمة وذات تجربة وهو واقع لا ينكر حتى اللحظة فالسؤال يظل مطروحا على أية قاعدة برامجية يتقدمون وهذا هو جوهر الموضوع الذي يتهرب منه الجميع. ماذا تفعل الكفاءة العلمية بدون برنامج مخطط وواضح لجمهور الناخبين.  

إن الخيبة التي قادت كتابة المقال هي أن الأحزاب وطيلة ثلاث سنوات من الاحتراب السياسي لم تغير خطتها ولم تطور خطابها ولم تتواضع لثورة ومطالب الثوار(لا أتحدث هنا عمن يرفض النظر إلى ما حدث على انه ثورة ومسار تغيير لكنه يعلن شعارات تحقيق أهداف ثورة لا يؤمن بحصولها.) أحزاب جامدة الفكر والممارسة والقيادة تفكر في استعادة السلطة للعمل من خلالها على تغيير في الظاهر لكن النتيجة باتت معروفة سلفا وهي الحفاظ على الوضع كما هو وجني المكاسب الخاصة من خلال الحفاظ عليه كما هو أي أن جوهر عملهم سيكون مراودة راس المال المحلي والعالمي على دور الوسيط المسهل لدور البلد الذي يعرفه الجميع وهو دور السوق الفرعية للمنتجات الغربية وهو المسار الذي عرفنا نتيجته و سعى الناس إلى تغييره بثورة لم تنتج حتى اللحظة إلا النظام القديم بوجوه جديدة. 

انه طلاء ديمقراطي يروج حتما لدولة ليبرالية تابعة وذليلة في سياق معلوم وماحق لكل تطلعات الشعوب الثائرة رغم ضعف أملها في النخب. وترجمته في الواقع بر هكاكة  قد تحل المعضلات نفسها دون جهد سياسي هكذا نربح على الواجهتين في بلاد الحد الأدنى.
التعليقات (0)