قضايا وآراء

قصة عمدة سرق بلدته ويسأل عن الحكم الشرعي للغناء!

رضا حمودة
1300x600
1300x600
نظرة سريعة على أصغر قرية أو نجع في مصر المحروسة تستطيع أن تتعرف على أسباب تخلفنا وانحطاطنا عن كل الأمم ومدى الزيف الذي نحياه بالكذب والنفاق وقناع الإيمان والفضيلة بينما نحن غارقون حتى الثمالة في الفسق والفجور والفساد والانحطاط إلا من رحم الله من أصحاب البصيرة والحكمة ممن لا يفصلون بين الدين والدنيا أو يعيشون بين الناس بأكثر من وجه طمعاً فى مآرب أخرى
فلسنا مجتمعاً من الملائكة العظماء أو الشياطين المرجومين.

إنه التنطع في الدين والتشدد في غير موقع التشديد كما أبلغنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم عن هلاكهم في حديثه الشهير (هلك المتنطعون) حيث كررها ثلاثاً، وتاريخنا الإسلامي شاهد على واقعة شهيرة ومعبرة عن التنطع في أسوأ معانيه وأكثره تجسيداً ورمزية عندما جاء رجل إلى الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يسأله عن حكم دم البعوض يكون فى ثوبه هل ينقض الوضوء أم لا، فما كان من عبد الله بن عمر أن سأله على الفور ممن أنت؟ دون أن يجيبه عن سؤاله فقال من أهل (العراق) مدركاً بفطنته وفراسته أن الأمر لا يعدو مجرد تنطع رخيص بعيداً عن أصل الدين ومقاصد الشريعة الإسلامية فقال بن عمر "انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! (يقصد الحسين بن على رضي الله عنهما) وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للحسن والحسين: هما ريحاني من الدنيا" فكانت رسالة بن عمرٍ رضي الله عنهما واضحة لأولى الألباب ضد التهويل من صغائر الأمور وسفاسفها بينما في المقابل التهوين والتقليل من الكبائر وفظائع الأمور وكأنه مقصود بغرض الإلهاء عن القضايا الأهم والمصيرية للأمة.

كان من أكثر علماء الأمة المعاصرين اهتماماً وفهماً بالواقع الحقيقي المزري للأمة ومدى انحراف بوصلتها الرئيسية عن الفهم الصحيح للدين في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية وفقه الأولويات هو العلاّمة الراحل الشيخ محمد الغزالي فضلاً عن تلاميذه الذين تأثروا به من كبار العلماء والمفكرين أمثال الشيخ د. يوسف القرضاوي ود. محمد عمارة ود. محمد سليم العوا والمفكر الإسلامي فهمي هويدي.. فقد تناول الشيخ الغزالي تلك الإشكالية العميقة في مجتمعاتنا عن الخلل الواضح فى فهم فقه الأولويات في كتابه (تأملات في الدين والحياة) عندما دعاه عمدة القرية الفقيرة إلى مأدبة غداء عامرة حافلة، ترف عليها بشاشة النعمة، وتنعقد فوقها روائح شتى من الأطباق المنضودة، والأطعمة الممدودة، وعلى أطراف الخوان أزهار ورياحين تعبث بها أصابع الرجال الجالسين فى قلة اكتراث، المتهيئين للأكل والثرثرة فحسب. فلما ضمني المجلس (هكذا يقول الغزالي) العابث بمرحه، الصاخب بضحكه، استشعرت التناقض الواضح، بين ما رأيت وما أرى، وتذكرت الأسى الشائع في جو القرية، والصارخ بمعاني الحرمان في حياة أولئك الفلاحين المساكين، وبرز أمام عيني شبح الشقاء الجاثم في صدورهم، فأعدت النظر إلى الوجوه المبعثرة حولي، ورأيت أسارير منفرجة، وملامح طافحة بالبشر، ثم قال العمدة بلهجته الآمرة: يا ولد، افتح الراديو، نريد أن نسمع. وإن كان الشيخ المأذون (أحد المدعوين بالطبع) سيتضايق لأنه يكره الغناء! فأرسل المأذون جشاءً طويلاً ثم قال: إن الشرع الشريف هو الذي ينهى عنه أليس كذلك يا... موجها كلامه للشيخ الغزالي وقبل أن يوجه كلامه إلى الحضور الكرام وعلى رأسهم صاحب الحفلة المضياف يتبادلون الضحك العالي، وهم يكرعون من أنس المجلس،
ومتاع الحياة، وصفاء العيش، ما يستطيعون من ذلك كله!! وصوت الراديو ينطلق في الجو السكران بما فيه ومن فيه قائلاً: اوع تزعل ثانية   صحتك بالدنيا!.

وأحس "مأذون الشرع" بالحرج، فقال لى مستنجداً: أليس كذلك؟ أي أليس الغناء حراماً؟ أنت ممثل الدين بيننا فتكلم باسم الدين. فقلت ساخراً: كان للدين سفراء يمثلونه عند رجال الدنيا. أما اليوم فعند رجال الدنيا أقوام يمثلون باسم الدين! لكنهم للأسف يمثلون أدوراً هازلة! فقال المأذون: إني أسأل عن حكم الشرع الشريف. فقلت: تسأل عن أشياء قد تخدش أظافره. أما الأشياء التي تدق عنقه وتستأصل من الأفئدة جذوره، فلا تسأل عنها، ولا يسأل عنها أحد! وهذه الفوضى الاجتماعية التي طغت على بلادنا، وعبثت فيها بكل المقررات الدينية والعقلية، وطحنت قلوب الجماهير المعذبة، ألا يُستفتى فيها الدين يوماً ما ليقول حكمه الحق؟ ثم قمت في غضب (هكذا قال الغزالي) وأغلقت الراديو، فحبست صوت المرح المهتاج عن القوم المرحين. وتبرم العمدة بهذه الحركة وضاق المأذون بما سبقها من كلام، فانصرفت وفي مشاعري غليان مكتوم..

لقد أيقنت أن هناك عوامل مدبرة، تدفع الناس إلى الجدل الطويل في مسائل الدين الصغرى، لتصرفهم عن ملاحظة المشاكل الخطيرة التي يتعرضون لها في دينهم ودنياهم، حتى خُيّل إلىّ أن الاشتغال بهذا السفساف طابور خامس للإلحاد والفجور والبغي في الأرض. ولقد وظفني القدر فى الوعظ والنصيحة والإفتاء، فما أعجب ما رأيت ووعيت. ويتعجب الغزالي قائلاً: أقول للناس: سلونى في الجد، فيسألونني في الهزل، أريد أن تستفتوني في المبكيات، فلا أجدهم عندي إلا للاستفتاء في المضحات. وهم- ولا أدرى لم؟ يسألون عن حكم الحل والحرمة في لقمة خبز، ولكنهم يرفضون أن يسألوني عن الحكم نفسه فى قطعة أرض، لأن اختصاصي – وقد يكون اختصاص الدين – لا يتعدى القروش وآلاف القروش إلى الأفدنة وآلاف الأفدنة!. فإذا كانت الحادثة سرقة من جيب أو اختلاساً من بيت وجدت الفتوى بقطع اليد ماثلة. أما السرقات الكبرى حيث لا تتوافر الشروط الشكلية للجريمة فلا قطع ولا انقطاع ،ولينعم بذلك بالاً من يعنيهم الأمر!. ويختم شيخنا الغزالي كلامه التشريحي عن حال أمتنا المؤسف وطبيعة مرضها العضال: إن هناك شعوباً مسروقة تحت الشمس، وطوائف مغصوبة في وضح النهار.

وإن الله تعالى ليرقب من عليائه كيف يعمل الدين لإحقاق الحق وإزهاق الباطل. لندرك ما أدركه الغزالي بفطنة العالم العامل وعمق تحليله منذ سنوات طويلة عن حقيقة ما نعيشه اليوم من استفحال وتفشى المرض في جسد الأمة ذلك أن عمدة القرية (صاحب الحفلة) وهو منفصلاً عن واقع قريته أو رعيته يستفتى رأى الشرع والدين في الحلال والحرام رغم أنه قد يكون متورطاً في سرقة عشرات ومئات الأفدنة دون وجه حق من أبناء بلدته!، وكيف أن هناك أُناساً ينتسبون للعلم وللشريعة لا يزالون يتلاعبون بعقول البسطاء ويغسلون أدمغتهم بعيداً عن همومهم الحقيقية ومشكلاتهم الواقعية عبر إغراقهم في تفاصيل ثانوية وفروع لا تؤرقهم فنجد من يلوم المقتول ويترك القاتل ويعيب على المسروق دون السارق وينهى الناس عن الخروج على الحاكم بينما لا يطالبه فى المقابل بإقامة العدل والكف عن ظلم العباد ومصادرة حرياتهم وأموالهم وإن قالها فللناس كافة دون الحكّام خاصة، فالدين في نظر هؤلاء من أدعياء العلم وأشباه العلماء لحية وجلباب ونقاب ومجموعة من الطقوس والتي هي أهم وأعز وأقدس فى عقولهم من انتهاك الحرمات وخراب الذمم والكذب والنفاق واغتصاب أراضى المسلمين وقتل النفس، فهنيئاً للحكام والملوك والسلاطين والرؤساء بهم يزينون لهم الباطل باسم الدين فيكسب الحكام مرتين (فى الدنيا بطبيعة الحال ) الأولى باستتباب وديمومة ملكهم (أو هكذا يظنون) والثانية تنفير الناس من علماء السلطان ومن الدين في آنٍ واحد (أو هكذا يحلمون) ولكن هيهات هيهات لما يوعدون.
التعليقات (0)