مقالات مختارة

الخلافة المارونية الغائبة و«جيش الصليب»

وسام سعادة
1300x600
1300x600
عندما ترتفع، في صفوف المؤيدين ل«حزب الله» الدعوات للرّد على إعدام عنصر من المجموعة العسكرية المخطوفة على يد الجماعات المسلّحة المتنسّبة إلى «داعش» و«النصرة» شرق البلاد، من خلال إعدام متشدّدين إسلاميين في سجن رومية، يغفل ملتزمو هذا التشنّج الثأري، أنّهم يحتاجون لإتمام مرادهم، إلى توقيع رئيس الدولة اللبنانيّة ، وأنّ هذا الموقع شاغر منذ ما يزيد على مئتي يوم، وأنّّه ليس ثمّة ما يجيز دستورياً نقل هذا النوع من الصلاحيات إلى غيره بالوكالة، وأنّ «حزب الله» وحلفاءه هم الفريق الأساسي الحائل – بالامتناع عن الحضور، دون تأمين النصاب لجلسة برلمانية تنتخب رئيساً، مقدار الحيلولة، بقوّة الأمر الواقع – والتوازنات الطائفية زائد اللاتوازنات المسلّحة، دون انتخاب رئيس بمن حضر من النواب، ولو بعد هذه المدّة المقلقة، والمرشّحة للاستطالة، دون أن يكون بالإمكان توقّع كيف لشغور رئاسي مزمن أن يعبأ بعد ذلك، كأن شيئاً لم يكن.

فهذا الفراغ في الموقع الدستوري الأوّل ينتج على طريقته مفاعيل لادستوريّة، مثلما أنّه مرشّح لأن ترشح عنه مفاعيل دستوريّة، أقلّه بمرور الزمن.

ويأتي ذلك في وضع ملتبس بالنسبة لعلاقة لبنان حتى الآن بكوارث الحربين الأهليتين السورية والعراقية، المفتوحتين بعضهما على بعض.

فمن جهة، حظّه منها ليس بقليل: حجم من اللجوء الديموغرافي السوري يفوق بكثير الطاقة الاستيعابية اللبنانية، ويكشف أكثر من ذلك، عن هشاشة السياسات الرسمية اللبنانية المعتمدة لإدارة هذا الملف، مقارنة بما هو حاصل في تركيا والأردن، فضلاً عن مفارقة كون اللاجئين السوريين عرضة في وقت واحد، لنمطين من التغريب والتقريب على يد اللبنانيين. فمن جهة، هم قوم من «الغرباء»، ومن جهة ثانية، هم «أصلاء فوق اللزوم»، إذ يحتسبون بأوزان الطوائف اللبنانية. ولما كان السوريون أيضاً يتوزّعون إلى طوائف موجودة في لبنان – ومعظمهم يحتسبون على الطائفة السنّية، مع أنّ المناطق السنّية في لبنان هي التي تكابد الوطأة الديموغرافية والاقتصادية-، فهم «لبنانيون» قبل وفودهم إلى لبنان.

نحن إذاً أمام مأساة إنسانية، ومشكلة اجتماعية وكيانية في الوقت نفسه. كما لو أنّ كل مرحلة الوصاية السورية على لبنان لم تكن كافية كي يكتشف اللبنانيون كم أنّ السوريين غرباء عنهم، وكم أنّهم «لبنانيّون مثلهم» في الوقت نفسه. هذه المسألة المتّصلة بأبعاد اللجوء السوري الديموغرافي الكثيف تستفحل أكثر فأكثر، فيما لبنان ينتقل من سنة كان فيها برئيس جمهورية من دون حكومة، إلى سنة صار فيها بحكومة يشارك فيها الجميع باستثناء «القوات اللبنانية» لكن من دون رئيس للجمهورية. 

وكان رئيس الجمهورية السابق، العماد ميشال سليمان، قد أنهى عهده بمواقف وصفت بـ«الجريئة» بإزاء «حزب الله»، الذي ذهب للقتال في سوريا ضارباً عرض الحائط الحيثية «الحدودية» بين البلدين، وجاء الرّد برزمة صواريخ استهدفت القصر الجمهوري. لكن الدولة التي «لم تسمع ولم تر» دخول مقاتلي «حزب الله» إلى سوريا، لا حيلة لديها للحؤول دون وقوع مجموعة شابة من عسكرييها في شباك جماعات جهادية. 

ولا يعني هذا أن مشاهد خطف وإذلال وإعدام العسكريين مرتبطة حصراً بتدخّل «حزب الله» في سوريا. هناك أيضاً، مشكلة مزمنة بين الجماعات الجهادية والجيش اللبناني. ومع أنّ أكثرية عدد هذا الجيش من المسلمين، الشيعة ثم السنة، إلا أن الجماعات المسلّحة تعتمد وصفه بـ«جيش الصليب» و«الجيش الصليبي»، بتمييز واضح عن سائر جيوش المنطقة. فحتى الجيش الإسرائيلي تعيده هذه الجماعات إلى خيبر، والجيش السوري النظامي تسمّيه بالطائفة التي يتحدّر منها آل الأسد وكبار ضبّاطهم. وحده الجيش اللبناني يحيل عند هذه الجماعات إلى وافد من خارج المنطقة: الحملات الصليبية الإفرنجية. 

طبعاً، ما زال العرف يقتضي في لبنان أن يكون قائد الجيش مارونياً كما رئيس الجمهورية، الأمر الذي أدى دوراً، لا سيما بعد اتفاق الطائف، في تحويل قيادة الجيش إلى «ولاية عهد رئاسية». فهل هذا كاف لتعريف الجماعات الجهادية هذا الجيش بأنّه «جيش الصليب» وليس «جيش الرافضة» مثلاً؟ ربّما لأن الاشتباك مزمن بين الجيش وهذه الجماعات منذ بداية الألفية في أحداث منطقة الضنية، وصولاً إلى معركة نهر البارد، فحادثة عبرا، فمشكلة عرسال، وبالتالي ثمة مرحلة كاملة من هذا الاشتباك لم يكن فيها «حزب الله» هو الموضوع، بل كان الحزب يميّز نفسه عن مواقف شيعة العراق ويتهمه نوري المالكي بتدريب مقاتلين لتنظيم القاعدة، وكان الحزب يضع على لسان زعيمه السيد حسن نصر الله «خطاً أحمر» للجيش عشية معركة نهر البارد، التي لم تحسم إلا بعد أشهر مضنية، وبتجهيزات غربية زائد المدفعية السورية وتسهيل هروب مجموعة من المحاصرين. ثمة سردية مظلومية وثأر «سلفية جهادية» مع الجيش والدولة في لبنان سابقة على التصادم مع «حزب الله»، ثم متغذية بها ومغذية لها.

طبعاً، لم يؤمّن وجود شخص في السدّة الرئاسية بحدّ ذاته بداية معالجة موفّقة لموضوع اللجوء الديموغرافي السوري الكثيف، أو لموضوع تدخّل «حزب الله» في سوريا أو للمشكلة المزمنة بين الجماعات الجهادية والدولة اللبنانية، أو للإدغام الحاصل بين المشكلة مع الجيش والمشكلة مع الحزب. مثلما أنّ الإجماع الفراغي على ضرورة اعتماد «قانون انتخابي عصري يضمن صحة التمثيل»، لم يتمخّض عنه إلا خلاف مزمن على قانون الانتخاب، وصولاً إلى الانسداد الأخير عام 2013، على خلفية مشروع «القانون الأرثوذكسي» لانتخاب كل طائفة نوابها بمعرفتها، والانقسام الذي ولّده. 

فهل معنى ذلك أنّ هذه القضايا كانت مستعصية والرئيس موجود وستبقى مستعصية والرئيس غائب، ولا فرق كبيراً في الحالتين؟ أم إن الفراغ الرئاسي هو انعكاس لهذه الاستعصاءات جميعها؟ أم إنّه شكل من أشكال تأجيل الخوض الجديّ فيها إلى مرحلة يكون الحريق الإقليمي قد خفت قليلاً؟ 
سرب من الأسئلة ينتهي إلى مفارقة: من جهة، يكشف الفراغ الرئاسي المتمادي أنّ البلد «في غنى» عن رئيس، والحكومة قلّما تشهد في هذه الأيّام مشاكل داخلها، وإيقاع جلساتها منتظم، والبرلمان مدّد لنفسه بلا مشاكل، والمجلس الدستوري صادق على هذا التمديد، والزحمة المرورية والاستهلاكية تتعاظم عشية الأعياد، وطقوس الفراغ الرئاسي، من مثل صرخة البطريرك الماروني بشارة الراعي كل بضعة أسابيع، وإلغاء عرض الاستقلال الوطني في يومه، كلّها تعود فتظهر بأن البلد «يتدبّر شؤونه بشكل جيد» بلا رئيس في قصر بعبدا. وهذا يعني أنّ المنصب بحد ذاته ليست له مثل هذه الأهمية. لو كانت له هذه الأهمية لتعطّل عمل المؤسسات وأشغال الناس يوم خلو السدّة! 
لكن من جهة ثانية، فإنّ عدم القابلية للتوصّل في أمد واقعي لرئيس «توافقي»، سيظهر أن المنصب يزداد أهمية بفعل الفراغ الرئاسي نفسه وضراوة التجاذب، أو تعقيدات التحاور حوله.

مسيحياً، يمكن أن تقارن أهمية الرئاسة، حتى، بل خصوصاً، بعد أن نزعت منها صلاحيات ما قبل الطائف، بالهالة التي كانت للخلافة عند المسلمين. وإسلامياً، يجوز التعامل مع علاقة السنّة والشيعة بالمنصب الأول في الدولة، كما لو أنّهم يرونه بمنزلة «الكرسي المريض». فكما كانت السلطنة العثمانية هي «الرجل المريض» الذي يبقيه الأوروبيون على قيد الحياة طالما لم يتفقوا بعد على وراثة ملكه وتقسيمه فيما بينهم، كذلك هي، في موقع من المخيلة الطائفية، رئاسة الجمهورية المارونية بين السنّة والشيعة.

لكن الكرسيّ المريض هذا هو الآن شاغر. فيما الموارنة يتوزّعون بين قلق على استمرار الرئاسة في صلبهم، وبين اشتراط أن تكون رئاسة كاملة أو لا تكون. وفي ذلك تشبه بالموقف الإسلاموي، الذي رأى بأنه، بعد إلغاء مصطفى كمال للخلافة العثمانية، فإنّ الخلافة المنشودة راشدية طهورية تكون أو لا تكون. 

يحلم الموارنة برئاسة تشبه الخلافة، «لا الملك العضوض». يتعزّز واقعياً دور رئاسة الحكومة، منصب السنّة. تزداد في الوقت نفسه هيمنة «حزب الله» على مفاصل الدولة. أما عين «الجهاديين» في سلسلة جبال لبنان الشرقية فعلى «جيش الصليب».



(صحيفة القدس العربي)
التعليقات (0)