كتاب عربي 21

هل تنتصر ثورة تونس لربيع العرب

محمد هنيد
1300x600
1300x600
تونس زهرة الربيع العربي بامتياز، تونس هي أيضا آخر القلاع الصامدة إلى اليوم أمام شراسة قوى الردة العربية والدولية التي تسعى إلى إعادة المشهد العربي إلى المربع الأول. ضخت قوى الاستعمار العالمي إمكانيات مالية هائلة من أجل إجهاض حركة التغيير العربي التي ولدت في تونس وأينعت في القاهرة وتركزت في ليبيا وسافرت بعدها إلى كل مدن العرب لتقول للعالم بأن التغيير قد بدأ وبأن عجلة التاريخ لا يمكن أن تواصل على نفس السكة وفي نفس الاتجاه. الصراع لم يحسم بعدُ بل هو يعيش أخطر جولاته في تونس غدا حيث ستعلن نتائج واحدة من أخطر جولات صراع الإنسان العربي مع آلة الاستبداد الجهنمية التي مَنعت الأمة من النهوض ومنعتها من تحقيق ما نجحت فيه غيرها من الأمم من الفوز بأسباب الحرية والكرامة وسيادة الإنسان على أرضه وعلى ثرواته وثروات أبنائه. 

 صراع الثورة مع قوى الثورة المضادة في تونس لا يستمد أهميته وخطورته من أبعاده الهندسية؛ فتونس ليست بلدا كبيرا وليست دولة نفطية غنية، بل هو صراع يستمد أهميته من أبعاده الوظيفية والرمزية أساسا، فتونس رمز الربيع العربي بلا منازع، فيها تدشَّن الوقائع أو هكذا أراد التاريخ، وعلى أرضها تُحسم أم المعارك. الربيع العربي انتصر فعلا عكس ما تروج له نخب العار العربية وأبواقها الإعلامية من أنه استحال خريفا أو شتاء. لقد انتصر الوعي العربي انتصارا لم يحققه طوال سباته الطويل الذي فرضته عليه نخب الأيدولوجيا السياسية بمختلف مدارسها منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمان. ما حققه الربيع العربي للوعي الجمعي انتصارٌ لا يصدق؛ لأنه مكّن هذا الوعي من قطع سنوات ضوئية في إدراكه لطبيعة الصراع في المنطقة العربية، وفي فهمه لدور النخب السياسية العربية، وفي تصوره لحجم الزيف والتضليل الذي مُورس عليه طوال عقود من الزمان. كشف الربيع العربي دور القوى الفاعلة في المنطقة وفضح الدور الانقلابي الخطير الذي تلعبه القوى الوطنية المزيفة، من تخدير للشعوب ومن متاجرة بثرواتها وقضاياها. 

هذا الكشف هو أعظم الاكتشافات التي جعلت من سطح المعركة منكشفا، لا تغطيه شائبة وهو ما يجعل إعادة ترميم المشهد أمرا مستحيلا. جهود الثورة المضادة ووكلاء الاستعمار عندنا هي كمن يصارع طواحين الهواء؛ فالانقلابات التي حدثت لن تغير من العمق شيئا، لأنها حتى ولو نجحت في تغيير السطح فما هي فاعلة بالوعي الناسل عن الانفجار الكبير الذي أحدثه ربيع تونس من خلال ثورة 17 ديسمبر الخالدة. كيف نمسح من وعي الإنسان العربي طعم الحرية التي ذاقها؟ كيف نعيده إلى حالة النوم التي كان غارقا فيها وكيف يمكن أن نلغي من ذاكرته أن النظام العربي أوهن من بيت العنكبوت وأنه ليس بالصلابة التي يصوره لنا إعلام العار العربي؟ هذا الوعي هو في نظرنا أخطر مكاسب الربيع العربي وأجلّها لأنه حجر الزاوية الذي ستؤسس عليه الأجيال القادمة مشروع التغيير المستقبلي من أجل الخروج من دائرة المفعول به تاريخيا ومغادرة ربقة الاستبداد بلا رجعة. 

بناء عليه فإن جولة الصراع في تونس غدا ستكون حاسمة لهذا الوعي الجديد فهي لن تكون كغيرها من جولات الصراع بل سترسم مهما كان الفائز فيها مسارا جديدا للربيع العربي يتجاوز في مداه بلاد أفريقية نحو كل البلاد العربية الحالمة بالحرية والساعية إلى تحقيقها. فوز مرشح الثورة سيُبقي الصراع قائما بين الثورة وأعدائها وسيعيد إلى الثورة وهجها الذي فقدته بسبب تعثر الثورات الأخرى التي وُوجهت بالحديد والنار حتى تحافظ أنظمة العصابات على ما نهبته من خيرات الشعوب وثرواتها. 

فوز مرشح الثورة أمام العجوز التسعيني مرشح الدولة العميقة هو انتصار لدماء الشهداء ولأحلام المعذبين في الأرض ممن هدتهم آلة الظلم الاجتماعي وطحنتهم سياسات الجور السياسي. هو بلا شك تأكيد على أن الثورة لا تدفن حية مهما تآمروا عليها ومهما خانتها النخب السياسية وهددها المال الانقلابي الفاسد وزيفها إعلام العار العربي، باعتباره الراعي الرسمي للانقلابات في المنطقة العربية. 

غدا يحسم مصير الموجة الثورية الأولى التي دشنها الأحرار في قرى شمال تونس الغربي يوم 17 ديسمبر 2010. غدا نعلم حجم الوعي بجرائم الاستبداد وغدا نعلم كذلك مصير دماء الشهداء الذين سقطوا على كل أرض الوطن من أجل أن ننعم بالحرية والكرامة وبحق التعبير عن الرأي. غدا تُكمل الثورة مسارها رأسا بالقطع نهائيا مع دولة الفساد وعصابة السراق أو تنتكس ورائيا فتعيد الدولة العميقة إلى السطح كليا وتعيد معها شروط المقاومة مرة أخرى. فسياق الثورات عبر التاريخ لم يكن يوما خطيا مستقيما دائما بل هو تقاطعات وانحناءات وتداخل، لكنه مهما بلغ من التداخل والتقاطع، فإنه يحمل في داخله قدرة وظيفية هائلة على بلوغ هدفه، وعلى تحقيق الشروط التي من أجلها كان بدءا. 

تونس لن تكف عن المقاومة ولن تعرف السكون مهما ضخ الانقلابيون من أموال، ومهما تآمر عليها الداخل والخارج؛ لأن "الحركة - كما علمتنا كتب الأصول - متى كانت شوقا طبيعيا فإنها لن تَسكن البتة". 
التعليقات (0)