كتاب عربي 21

تاريخ التنظيمات العمالية في مصر (1)

1300x600
1300x600
قطاع العمال هو أحد أهم القطاعات في المجتمعات بشكل عام نظراً للنسبة العالية التي تنتمي إليه ونظراً لحجم مساهمته في إجمالي الدخل القومي وخاصة منذ الثورة الصناعية، ونلتزم هنا بالتعريف المتفق عليه للعامل في القانون المصري  وهو كل شخص طبيعي يعمل لمصلحة صاحب العمل وتحت إدارته أو إشرافه مقابل أجر.

ويعاني القطاع كما تعاني القطاعات الأخرى كافة في مصر من جرائم السلطة المركزية في مصر عبر تاريخها، ولم تنكسر حدة السيطرة الدولة المركزية على قطاع العمال إلا في مراحل الحكم الإسلامي نظراً لاختلاف مفهوم السلطة داخل الفكر الإسلامي عن المجتمعات الطبقية سواء فترة ما قبل الحكم الإسلامي، أو عند انهيار منظومة السلطة الإسلامية في عهد محمد علي وما بعده كما سنبين لاحقاً. 
فكما ذكر في المقال السابق تروي بردية قديمة أن عمالاً في الأقصر قد أضربوا عن العمل منذ آلاف السنين مطالبين بحقوقهم المسلوبة، ونظراً لعمق السلطة المركزية في مصر واعتمادها على منظومة بيروقراطية من الموظفين، نشأ مبكراً استغلال الطبقة الحاكمة لهذا القطاع. ولا توجد جريمة في التاريخ القديم تعادل جريمة استعباد مئات الآلاف من العاملين في بناء مقابر الملوك " الأهرامات"، التي على مقربة من الأهرام التي "نفتخر" بها، مقابر آلاف العمال – الرقيق في ذلك الوقت - الذين لقوا حتفهم وهم يصنعون قبور الفراعين ودفنوا في مكان مهمل بجانب الأهرام الكبيرة لا يلتفت إليه أحد.

وتتحكم طبيعة المجتمع وثقافته وتركيبته السكانية في نشوء وتطور الحركات العمالية المقاومة للاستغلال، وتعمل الطبقة الحاكمة على استغلال أدواتها كافة لفرض نمط فكري معين على من يتم استغلالهم حتى تسهل عليهم عملية الاستغلال، ونشير إلى أن الوفرة في الغذاء والاحتياجات الأساسية وعدم وجود صناعة بشكلها الحديث، قللت من تكوين كيانات عمالية مقاومة في الأزمنة القديمة.

في القرن العاشر الميلادي ومع الاحتياج المتزايد للحرفيين والعاملين في صناعات متعددة، وكانت لا تزال تعتمد الحرفة والصناعة على المهارة الفردية، ظهرت داخل كتابات التاريخ الروابط الخاصة بالحرفيين وأصحاب المهنة الواحدة، واعتبر برنارد لويس  نظام الطوائف والروابط المهنية والحرفية أحد أهم ظواهر الحضارة الإسلامية في القرون الوسطى، ويرى لويس أن غياب مصطلح النقابة في العمل الإسلامي لا يعد دليلاً على عدم وجود تنظيمات عمالية، وذلك لوجود مفهوم وشكل بديل وهو الطوائف. ومصر كانت جزءاً من الحضارة الإسلامية ووجد بها هذا النظام.

ويقول محمد المرباطي في مقاله القيم فهم النقابات العمالية والحرفية مع بدايات التاريخ العربي الإسلامي، " وكانت هذه النقابات عبارة عن تجمعات حرفية ومهنية وصناعية ينتسب إليها الصناع ومن يعمل فى الحرفة الواحدة، أو عدد من الحرف القريبة من بعضها، وكان لكل نقابة إدارتها وشيوخها المنتخبون ودساتيرها، ومن وظيفتها مساعدة أعضائها والحفاظ على المهنة وأسرارها وتطويرها وتنظيم إنتاجها، ودقة صناعتها وتقدير أسعارها والأجور وأيام العمل وأوقاته. وقد تأثرت هذه النقابات فى الدولة الإسلامية بالنقابات البيزنطية  من حيث سعة تنظيماتها وكثرة عددها وفعالياتها، وسن القوانين التى اعترفت بنقابات الحرفيين والصناع ،وعرف منها نقابات الخبازين وصناع النسيج والسباكين وصناع الجلود وغيرهم".  ويضيف كاتب المقال بشكل تفصيلي يدل على الرقي الكبير في تلك الفترة كيفية إدارة الحرفة عن طريق شيخ الطائفة وكيفية تصعيد العامل وقبوله والتكافل الاجتماعي بين أعضاء الرابطة. 

ومن أهم مزايا هذا النظام في فترة ما قبل الثورة الصناعية، عدم وجود سيطرة لقوى رأس المال على الحرفيين، ويستطيع رفع المهارة الفنية لكل العاملين بها ويجعل من هذه الكتلة المجتمعية حائط صد ضد استقطاب السلطة في رأس النظام للدولة ككل؛ لأنه يكون تجمع بشري وقانوني يمتلك القدرة على المقاومة، ويستطيع أيضاً الوقوف ضد استغلال رأس المال، ويحمل هذا النظام سلبية في احتمال استبداد شيخ الطائفة وأعوانه كما حدث في نهايات القرن التاسع عشر، وأيضاً عدم وجود آليات تصحيحية داخل هذا النظام مما قد يؤدي إلى استبدادا داخلي، ولكن يبقى الفساد محصوراً داخل طائفة واحدة ولا يمتد إلى باقي الطوائف كما هو الحال عند وجود سلطة مركزية نقابية واحدة. وكان يمكن إجراء بعض التعديلات والإجراءات التصحيحية على هذا النظام، الذي امتد ما يقرب من الألف عام دون تدميره لصالح نموذج الدولة الرأسمالية الحديثة.

وفي نهايات الدولة العثمانية  قام محمد علي باشا بترسيخ تدخل السلطة المركزية  في الصناعات الصغيرة، التي كانت تحت سيطرة المجتمع ممثلة في الطوائف، وأرسى نظام الاحتكار وهو إخضاع شيخ الطائفة للحكومة بجعله ملتزماً، وأصبح حق الالتزام يعطي لمن يدفع أكثر وبالتالي لم يعد الطائفة مجال للارتقاء بالمهنة، وسيطرت الحكومة على الأسعار سواء للمواد الخام أو أسعار بيع المنتجات مما أدى لانهيار ذلك القطاع، ويؤكد ذلك أن السلطة المركزية هي أحد أهم أسباب انهيار هذا النموذج الراقي في إدارة المجتمع الصناعي على مستوى الصناعات الصغيرة.

وبدأ ظهور نموذج الصناعة الحديثة في هذا العهد بإنشاء المصانع الكبرى، وقد ارتبط ذلك بتدمير منظومة الصناعات الصغيرة ،حيث لا يمكن توفير اليد العاملة لتلك المنظومة الصناعية الجديدة دون تدمير المنظومة القديمة، واستعان محمد علي أولاً بالأجانب لإدارة هذه المنظومة، ثم استعان تباعاً بالمصريين. ونظراً للسياسة الاحتكارية الاستبدادية التي كان يتبعها محمد علي، ولأن هدفه الأساسي من إدخال الصناعة هو توفير مستلزمات إنشاء إمبراطورية له وخدمة جيشه، ولم يكن هدفها بناء مجتمع مصري قوي، مارس السخرة ضد العمال المصريين في المصانع كما مارسها على المصريين كلهم في القطاعات كلها. ويذكر أن عمال مصانع النسيج في الصعيد مثلاً، قاموا في عام 1824، بإشعال النار في‏ المصنع . وكان الفلاحون يعملون عنوة وبالسخرة في مصانع "الباشا"، فكانوا يفرون حتى إذا ألقت الشرطة القبض عليهم أعادتهم إلى المصانع ثانية. وكان الفلاحون يحتجزون في سجون داخل المصانع حتى لا يفروا، وكانت أجورهم متدنية للغاية وتُخصَمُ منها الضرائب؛ لذا  إنهارت المنظومة الصناعية كلها التي قام بإنشائها في أواخر عهده تماماً.

لم تستطع القوى العمالية الناشئة في ظروف انهيار منظومة الكيانات العمالية القديمة  المتمثلة في نظام شيوخ الطوائف، ومع حداثة النظم الصناعية عليهم، لم تستطع بناء كيانات مناهضة للاستغلال،  واقتصر الاعتراض على محاولات الهروب الدائمة من استبداد احتكار الدولة متمثلة في محمد علي وجيشه.

وكانت مصر والمصريون في تلك الفترة تعاني بين نظام مجتمعي قديم، يحتاج إلى إصلاحات جذرية دون تدميره، وبين نظام استعماري يتناقض مع البناء المجتمعي ويريد تدميره وإنشاء نمط يتوافق مع مصالحه وأهدافه الاستعمارية والأيديولوجية.

وحسم الاحتلال الإنجليزي ذلك في عام 1883 بعد دخول البلاد بعدة أشهر بإلغاء نظام الطوائف الذي ارتبط بإنشاء المحاكم الأهلية، وتغيير بنية المجتمع لصالح نموذج الدولة الحديثة الرأسمالية، مما جعل الدولة تميل بشدة ناحية رأس المال على حساب العمال.

وبدأت مرحلة جديدة تختلف جذرياً عما سبقها تحت مظلة الاحتلال، وانتهت المرحلة الانتقالية التي أدارها محمد علي "بجدارة" بالقضاء على النماذج المجتمعية القديمة لصالح الدولة الحديثة. والمقال القادم سيستكمل تاريخ التنظيمات العمالية الحديثة وإشكالياتها، ويليه طرح أفكار حلول للخروج من حالة تأميم الدولة المصرية لتلك التنظيمات.   
التعليقات (0)