كتاب عربي 21

إعادة بناء المعارضة التونسية

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600
بين ردة سياسية محتملة ينجزها حزب التجمع العائد بغلاف نداء تونس وبين احتمال ضعيف في تعديل أشكال تقاسم السلطة بالاشتراك في إدارة المرحلة تبدو الساحة السياسية التونسية متحركة رغم حالة من الترقب المشوب بالحذر مما قد يفعله نداء تونس الحاكم بأمره والمحتكر لكل السلطات.

ففي ظاهر الأمر يبدو حزب النداء غير قادر على تشكيل حكومة بمفرده وهو يختار من الحلفاء ما يثبت أقدامه على أرض زلقة ولكنه بالتوازي مع البحث عن شرعية حكم ديمقراطي يطلق يد الأمنيين في استعمال السلاح بما يؤشر على تصلب سياسي قادم سيكون محميا بقوة الأجهزة المعتادة على القمع المنهجي. بحيث يعود التونسيون للدفاع عن مربع الحرية الأساسي متناسين كل قضايا التنمية والديمقراطية التي قامت من أجلها ثورتهم.

أمام خطر التغول الأمني وخاصة باسم مقاومة الإرهاب وهي علكة بدأت تدور في أفواه إعلاميي النظام العائد خاصة بعد عملية فرنسا و محاولة الإيهام بأنها انطلق من تونس. كيف يظهر مشهد المعارضة التونسية؟ وكيف سيكون تصديها لتضييق مربع الحريات؟ وكيف ستعيد الدفع نحو تحقيق أهداف الثورة التي لا تزال معلقة كحلم أطفال؟.

المشهد القديم يعود مشوَّها

كان المشهد السياسي قبل الثورة مرتبا على حزب قوي حاكم ومعارضة مشتتة ومتناحرة يستأنس النظام بعضها بالأعطيات السياسية (20 بالمائة من البرلمان توزع بين الأحزاب المسماة كرتونية) ويحتفظ التجمع الحاكم بأغلبية مريحة تسمح له بالقيادة والتشريع على هواه. 

خارج المستأنسين وجدت معارضة متنمرة أو جذرية هي المعارضة الإسلامية متمثلة في حركة النهضة المطاردة في السجون والمنافي بعد محاولة يائسة للاندماج في العمل السياسي. ومعها فصائل اليسار والبعثيين الذين يسكنون في مفاصل النقابات ويعارضون من خلالها فيما يخفت صوتهم في الشارع. وتتوزع بقية المشهد المعارض أحزاب قانونية بقيادات مشهورة ولكن بلا قواعد حقيقية في الشارع. 

الثورة حركت المشهد بشكل كبير. فانتقلت المعارضة إلى السلطة في الفترة الانتقالية بقيادة الإسلاميين وأوصلت أشد المعارضين جذرية إلى رئاسة الدولة. لكن الانتخابات التشريعية والرئاسية أعادت المشهد القديم. التجمعيون باسم جديد في السلطة والمعارضة عادت إلى مواقعها القديمة لكنها عادت بأسوأ حال مما كانت. رغم ظاهر ديمقراطي ما زالت لم تلجم فيه الأفواه وتكسر فيه الأقلام وإن بدأت المؤشرات تتوالي على ذلك. ويمكن قراءة المشهد كما يلي:

(1) الإسلاميون يختارون إنقاذ جلودهم بموالاة النظام القديم وتزكيته. فقد أعطتهم الانتخابات الموقع الثاني في المجلس النيابي ففضلوا مهادنة النظام القديم والاصطفاف وراءه بعبارة شيخهم وإعطائه شرعية حكم عبر تثبيت حكومته بأغلبية برلمانية ثم قبول الاشتراك في الحكومة بحقائب غير سيادية. وهذا في ما يبدو خيار تكتيكي للإسلاميين في تونس إذ بدأوا يفضلون عدم التصدي للحكم بشكل مباشر تحت ذريعة الضغوط الخارجية الرافضة لوجود إسلاميين في السلطة. ولكن السبب الحقيقي في تقديري أن الإسلاميين غير جاهزين للحكم من حيث الموارد البشرية وخاصة من حيث تصور شكل الحكم والبدائل المنتظرة فهم يقدمون وصفات أخلاقية متينة ولكن إدارة الدولة ليست من تخصصهم بعد. ويقول بعضهم الآن بضرورة تحول الإسلاميين إلى إدارة عميقة قبل الظهور حول طاولة الحكم. ولكن هل يبدو هذا التحول في التكتيك غائبا عن النظام الذي يحالفونه ليسرقوا روحه البيروقراطية؟

(2) اليسار يتخصص في قطع الطريق: لا يبدو اليسار التونسي قابلا للتطور وحتى إذا فعل فانه لا يبدو مستعدا للتخلي عن برنامجه الوحيد قطع الطريق على الإسلاميين ومن يواليهم. كل برنامج اليسار منذ ظهور الإسلاميين في السبعينيات هو منعهم من الوجود بكل السبل وقد اشتغلوا كعصا غليظة وكعيون ومرشدين لنظام بن علي ليسهلوا عليه تجفيف منابع الإسلام السياسي ومارسوا كل أشكال التشويه الأخلاقي ضدهم. وبعد الثورة وجد اليسار نفسه في منافسة انتخابية مع الإسلاميين فخسر فعادت الأجندة الاستئصالية لتوجيه كل ما يقوم به اليسار بشقوقه المختلفة. الانتخابات الأخيرة أعطت شقا من اليسار وضعا برلمانيا لكنه اشترط عدم الاشتراك في الحكومة مع حزب النهضة. فإما هو(الجبهة الشعبية) أو النهضة. رغم أن الجبهة تصنف الحزبين الكبيرين (نداء ونهضة) في اليمين الرجعي. ولا تبدو خيارات الجبهة مفهومة في تحالفها مع يمين ضد آخر إلا من داخل الأجندة الاستئصالية للإسلام السياسي التي لا تراجع مطلقا. ولذلك يبدو تحالف الجبهة اليسارية مع الإسلام السياسي (النهضة) لقطع الطريق على عودة النظام من قبيل أضغاث الأحلام الرومانسية. فهذا اليسار لا يتطور. ولذلك فانه يموت سياسيا ما لم يطرح على نفسه أجندا أخرى غير قطع الطريق.

(3) العروبيون الشتات الأبدي: رغم وصول بعض أبناء التيار العروبي إلى البرلمان (حركة الشعب) فان غالبية أبناء هذا التيار ما تزال تترحم على القذافي وتمجد براميل بشار الممانع ولكن حقيقة وضعها السياسي هو الشتات الناتج عن أهواء زعامات قصيرة النظر تدعو إلى توحيد أمة العرب وتعجز عن توحيد مجموعات حزبية صغيرة في كتلة سياسية واحدة ولذلك فإن هذا التيار سيعاني طويلا من شتاته حتى تندثر الزعامات الصغيرة. رغم أن خط حركة الشعب في مجمله يعتبر خطا نقديا ويبدي مرونة سياسية تسهل التعاطي مع المختلف وتبتعد عن الاستئصالية اليسارية العدمية ولكنها ليست تيارا غالبا أو هي ليست على قلب رجل واحد في مسائل كثيرة.
(4) المعارضة الجديدة ليست هؤلاء جميعهم: 

سواء منها الذي سيعارض السلطة من داخلها(هكذا) يبرر الإسلاميون لقواعدهم المشاركة في السلطة أو الذي سيقطع الطريق على الجميع أو الذي يقف على ربوة التأمل حتى تتضح له الصورة فيجد نفسه خارجها. المعارضة التونسية لعودة النظام القديم هي جماهير حملة المنصف المرزوقي للانتخابات الرئاسية. هذه الكتلة الشعبية الحقيقية الرافضة لعودة النظام تحت أي مسمى جديد والرافضة للمساس بمربع الحريات الأساسية والمؤمنة فعلا بأنه حصلت ثورة في البلاد وأن على السياسيين وضع مطالبها موضع التطبيق. 
هذه الكتلة متوافقة على مبادئ كثيرة ولكنها ليست منسجمة تنظيميا بعد. ففي جزء منها كبير هي:
• جمهور الحزب الإسلامي (النهضة) الذي انحاز إلى الحملة برغم تردد قيادته في دعم المرزوقي. هم جمهور غير حذر ومندفع نحو التغيير الجذري ويمكن القول انه الجمهور الأفقر ضمن صف الإسلاميين (جمهور لم يتبرجز). لا نعتقد أن هذا الكتلة ستتخلى عن حزبها لتلتحق بغيره ولكن نميل إلى القول أنها الكتلة التي ستجذر حزب النهضة في مسار التغيير وليس في مسار المهادنة. وسيكون مؤتمر الحزب القادم (2015) موعدا مفصليا بين الكتلة الثورية وبين القيادات المصطفة مع النظام. بما يفتح على احتمال خروج النهضة من المشاركة إلى المعارضة.

• جزء من جمهور حملة المرزوقي هو الأحزاب الصغرى التي صنعت لها أسماء إعلامية كبيرة ولكن بلا جمهور حقيقي وقد وزنت نفسها في التشريعية وتبين أنها من وزن الريشة. وجمهورها القليل يبدو متحمسا لتجذير خط نضالي غير مهادن ولكنه مدني ديمقراطي.

• جمهور شبابي غير متحزب يبحث عن هوية سياسية منتمية للثورة وتعمل على تحقيق مطالبها وهو يشعر بالخذلان من الأحزاب التي تصدت للسلطة لأنها لم تفكر في التغيير الجذري وهو يبتعد عن الأحزاب كلما هادنت النظام(هذا أحد أسباب تراجع كتلة مصوتي النهضة).

هؤلاء جميعهم هم المعارضة القادمة للنظام العائد بمسميات وبأحلاف جديدة مصطنعة في الخارج وبقدر كبير من الإيهام بالنظام مقابل الفوضى. ولكن في حقيقة الأمر بمقايضة الأمن مقابل الحرية.

كيف سينتظمون وينظمون عملهم السياسي في قادم الأيام. كيف سيتحركون ميدانيا و يحشّدون؟ وعلى أية قاعدة سيبنون عملهم معارضة على قاعدة أن النظام لا يَصْلِح ولا يُصْلَح ؟ أم بمعارضة ميدانية تحت سقف الدستور. 

هذه حظيرة عمل سياسي كبيرة جدا قدمت لها الثورة خدمة مهمة جدا هي أنها فرزت من كان مصنفا في المعارضة وتبين أنه ليس أكثر من منفذ لأجندات النظام. لقد فرز الصف المؤمن بالثورة نفسه عبر حملة المرزوقي وصار هناك تيار حقيقي يتبني تلك الأهداف فوق الحزبية وفوق الفئوية. إذ يتجمع فيه بعض رموز اليسار الوطني المستقل عن الجبهة الاستئصالية وشباب إسلامي الهوى بل يستقطب شبابا سلفيا مؤمنا بالتغيير السياسي السلمي. على قاعدة من ذلك سيكون العمل السياسي في الميدان فإن أفلح في وضع ذلك في تنظيم سياسي فعال ومرن وفي كراسات عمل فكري وسياسي وتنفيذي فإن عمر السلطة الحالية العائدة بتزييف الانتخابات سيكون قصيرا. 
التعليقات (0)