كتاب عربي 21

تاريخ التنظيمات العمالية (3)

1300x600
1300x600
التاريخ هو القاعدة الكبرى التي نفهم بها حاضرنا ونبني بها مستقبلنا؛ والتاريخ روح نابضة وليست مجرد سرد لكلمات وحكايات؛ والتاريخ حولنا في كل تفصيلة في حياتنا وقراءة التاريخ قبل البدء في أي محاولة لتطوير أي أفكار أو إجراءات هو ركن أصيل من العمل.

وسط الحالة الثورية الهائلة التي تعيشها مصر في تلك الأيام التي ستكون من الأيام الخالدة وستخرج مصر والأمة إلى آفاق جديدة وعالم جديد وربما تتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد سواء امتدت إلى أشهر أو أعوام؛ نحتاج إلى بناء أنساق فكرية في مجالات عدة ونحتاج إلى قراءات أعمق حتي نستطيع تجاوز مراحل التحول الكبرى بمحددات فكرية واضحة مستقاة من قراءتنا للتاريخ وفهمنا للواقع.

وبتطبيق هذا المفهوم علي ملف العمال الذي أزعم أن هناك قصور كبير في تعامل التيار الإسلامي والفكر الإسلامي في هذا الملف؛ ربما لأنه مصر على بناء أفكاره داخل المصطلحات الغربية بين الرأسمالي والشيوعي والاشتراكي وغيره وتاهت إرادتنا الفكرية وسط صراع أفكار بمقدمات لا تنتمي إلينا بل وتعارض مقدماتنا وأفكارنا.

وملف العمال أحد أهم الملفات التي يظهر بها ضرورة بناء نسق فكري خاص بالفكر الإسلامي للتعامل معه وقبل البدء في محاولة بناء ذلك النسق الفكري نمر سريعا على تاريخ التنظيمات العمالية بعد انقلاب يوليو 52 –إنه شهر انقلابات مصر.

المشهد الأول في 7 سبتمبر 1952 أي بعد أقل من شهرين من انقلاب 52؛ تم إعدام محمد مصطفى خميس ومحمد عبد الرحمن البقري بعد محاكمة عسكرية والحكم على المئات؛ وكما ذكر في المقال السابق فقد تحرك مركز الحراك العمالي من قطاع الخدمات إلى قطاع الغزل والنسيج وسيطرت الدولة على الحركة العمالية بقطاع النقل؛ لذا لا نجد من المستغرب أن تكون رأس الحربة في أحداث مارس 54 هم عمال النقل للقضاء على التحول الديمقراطي؛ ففي أغسطس 52 قامت شركة كفر الدوار بنقل بعض المال بدون أسباب فقام العمال بالاحتجاج وإضراب عن العمل؛ حوصر المصنع من قوات الأمن وقتلت أحد العمال – لا جديد عن أحداث 47- خرج العمال في تظاهرة وانطلقت رصاصة مجهولة المصدر – من الطرف الثالث- وقتلت أحد جنود الجيش بكمين فاندلعت المواجهات وألقي القبض على مئات العمال وقدموا للمحاكمة التي أدت إلى إعدام الشهيدين خميس والبقري وسجن مئات العمال.

لم يعدم انقلاب 52 الملك ولا وزراءه ولا " أصحاب الثروة" إنما بدأ بإعدام العمال بمحاكمة عسكرية في أربعة أيام. إن "الثورات" التي تبدأ بإعدام العمال هي "ثورات على رأس السلطة وهدفها هو تغيير شكل الطبقة الحاكمة وليس تغيير بنية السلطة؛ وطالما كان صراعا في تلك المنطقة بعيدا عن إعادة السلطة إلى الشعب فهو صراع بين طبقة حاكمة ومجموعة أخرى تريد إحلال نفسها بدلا من الطبقة القديمة.

ورد فعل التيار الإسلامي ممثلا في جماعة الإخوان المسلمين كان سلبيا للغاية؛ وأرى أن التيار الإسلامي سيظل يعاني بشده في قراءته وتعامله مع المشاهد العمالية وغيرها إذا أصر على البقاء في التحرك داخل الأطر الفكرية المصنعة بخارجه واستخدام المناورة السياسية في الزمان الخاطيئ والموقع الخاطئ.

المشهد الثاني في مارس عام 54، عندما قامت القيادات النقابية لعمال النقل -خلافا لمعظم النقابات العمالية في كل مصر- بمساندة مجلس قيادة "الثورة" مدفوعة الأجر ضد التيار الديمقراطي. وكان يوم 29 مارس 54 هو النسخة الأصلية لـ 3 يوليو 2013. إن استغلال الطبقة الحاكمة للتنظيمات العمالية واختراقها الدائم لتكون حائط صد ووسيلة للسيطرة على الغضب العمالي هو الوسيلة الأكثر سهولة لإيقاف المد الثوري داخل القطاع الثوري الرئيسي في أي مجتمع وهو العمال؛ وإصلاح ذلك غير مرتبط فقط باستقلال التنظيمات العمالية كما كان الحال قبل غزو محمد علي؛ ولكن مرتبط أيضا بتفكيك بنية السلطة وإعادة بنائها.

المشهد الثالث سنة 1959 وهو إلغاء النقابات على مستوى المنشآت وفرض فكرة النقابة العامة على كافة العمال. والنقابة العامة تجمع كل المنتمين لصناعة أو نشاط معين؛ وخطورة النقابة العامة عندما تكون ناتجة من رأس السلطة فهي أشبه بالملتزم السياسي بعد الملتزم المالي في عهد محمد علي وبالتالي فهي تدافع عن السلطة التي تركزت في رأس النظام وتصبح جزءا منها ولا يمكنها استعادة السلطة مرة أخرى لعمالها. والغريب أن طوال فترة ما بعد انقلاب يوليو الأول حتى عام 1961 لم تصدر أي تشريعات أو قوانين لصالح العمال باستثناء منع الفصل التعسفي؛ وحتي قانون العمل الصادر سنة 59 كان تجميع للقوانين القديمة ولم يعدل شكل العلاقة الاحتكارية بين رأس المال والعامل مع التوسع في القطاعات التي يمكنها إنشاء نقابات. والظاهر من تلك الفترة وطبيعة إنشاء اتحاد عمال مصر في 59 أن السبب في ذلك لم يكن الرغبة في تحرير العمل النقابي بقدر ما هو إنشاء رؤوس للعمل النقابي تنتنمي للسلطة المركزية للسيطرة على النشاط العمالي وتقييده وليس تحريره.

ويأتي مشهد القطاع العام ويظهر من الوهلة الأولي أنه في صالح العمال وتنظيماتهم؛ إلا أن المدقق في المشهد الكامل لمصر يجد أن القطاع العام وإنشائه كان محاولة من رأس السلطة المتحكم في نسبة كبيرة من السلطة -وربما كلها- بعد إنهاء الحياة السياسية والحزبية والقضاء علي كافة أدوات القوة المجتمعية ومنها القوي العمالية بعد السيطرة علي العمل النقابي ممثلا في الاتحاد العام لنقابات مصر؛ فكانت الخطوة التالية هو ضرورة السيطرة علي الثروة؛ فلم يكن التأميم وإنشاء القطاع العام لصالح الشعب أو العمال؛ فهذه الخطوات ربما تكون في صالح الشعب إذا كان يمتلك السلطة؛ أما إذا كانت السلطة مستقطبة في طبقة حاكمة فكل هذه الإجراءات تكون في صالح استقطاب الثروة والتحكم بها. كما أن إنشاء وزارة العمل يؤطر لسيطرة السلطة التنفيذية علي ملف العمال وخاصة مع تعمد اختيار الوزراء من قيادات اتحاد عمال مصر فتكتمل بذلك دائرة استقطاب السلطة كاملا من المجتمع العمالي إلي رأس السلطة.

إن التوسع في إنشاء الوزارات هو أحد أدوات السلطة التنفيذية للسيطرة علي أدوات القوة في المجتمع وتأطيرها لصالح الطبقة الحاكمة.

انفصلت القواعد العمالية عن الرأس النقابي البيروقراطي المنتمي للسلطة تعرضت الإضرابات عمال مصر طوال الخمسينات والستينات إلي المحاكمات العسكرية مما أدي إلي تراجع العمل النقابي العمالي تراجعا حادا خاصة مع القمع الكبير الذي تعرضت لها القوي الإسلامية واليسارية؛ إلا أن تراجع الحراك العمالي يرجع بالأساس إلي الضربات العنيفة التي نالت من التنظيمات اليسارية و الشيوعية. 
المشهد الرابع هو فترة السبعينات التي تعرف بفترة الانفتاح وقد عاد العمال إلي واجهة العمل المقاوم خارج الإطار النقابي المؤمم من الدولة؛ وتبني اليسار قضايا العمال وحدثت عدة إضرابات واعتصامات للمطالبة بحقوق العمال وتعديل الأجور التي تآكلت قوتها الشرائية؛ وئلك في حلوان وكفر الدوار والحوامدية ودمياط وحدثت مواجهات دموية بين العمال والسلطة مرة أخري؛ وتأتي قمة العمل الثوري للعمال بقيادتهم مع الطلبة مظاهرات يناير 77 التي اندلعت بعد قرار رفع الأسعار والتي شهدت مواجهات عنيفة في الكثير من محافظات الجمهورية وأدت تلك التظاهرات إلي إلغاء قرارات رفع الأسعار.

حاولت السلطة السيطرة علي النقابات العمالية ونجحت في ذلك إلا أن ذلك لم يؤثر علي القوة العمالية في الأحداث الثورية في السبعينات وهذا ما أدي إلي تغيير استراتيجية السلطة في التعامل مع القطاع العمالي ومع اليسار وهو التوجه السياسي الأقوي وربما الوحيد  في الاهتمام بقضايا العمال.

إن ملف العمال لا يمكن فصله بعد انقلاب 52 عن مجمل الحياة السياسية والاجتماعية في مصر وقراءته بشكل منفصل ينتج خللا كبيرا يمنعنا عن الوصول للحل الصحيح؛ كما أن الحركة العمالية هي جزء أصيل من الحراك المجتمعي ككل للوصول إلي العدالة ولن يستطيع العمال الحصول علي حقوقهم دون الاهتمام بالعمل السياسي لأن تغيير أحوال العمال مرتبط بضرورة كسر السلطة المركزية علي كافة قطاعات المجتمع وليس القطاع العمالي فقط.

وهذا ما فهمته السلطة واستطاعت  استيعاب اليسار خلال الثمانينيات والتسعينات الذي كان يمثل صداعا للسلطة في ملف العمال واستغلت العداء الأيديولوجي بين "الإسلام السياسي " واليسار لسحبه من التعامل مع ملف العمال نكاية في اليساربل وأحيانا مساندة السلطة المستبدة علي حساب العمال؛ ووجد العمال أنفسهم دون تنظيم نقابي ودون تيار سياسي يمثل حاضنة أيديولوجية وتنظيمية لهم؛ وهذا ما قلل من الانتفاضات والإضرابات العمالية ولكنه لم ينهها واستمر عمال الحديد والصلب وعمال النسيج وعمال النقل في تنظيم إضرابات واستمر قمع السلطة الجنوني للعمال؛ وانتهي هذا الصراع الغير متكافيء القوة إلي إصدار قانون العمل الموحد لسنة 2003 وهو قانون يميل بشدة ناحية رأس المال ويحاصر مشروعية الإضراب ولا يحمي العمال من الفصل التعسفي وهو في إطار حالة التحول الصارخ إلي الرأسمالية في خلال التسعينات وما بعدها وتصفية ممتلكات مصر وشعبها واحتكار السلطة والثروة في يد الطبقة الحاكمة. إن قانون العمل 2003 هو إعلان انتصار تيار الثروة والسلطة علي القطاع الأكبر في مصر حتي تلك اللحظة.

حاولت قوي اليسار استعادة نفسها وبدأت مقدمات التغيير في مصر نتيجة للفشل المتراكم للطبقة الحاكمة وازدياد أحوال البلاد سوءا وبدأ أحد أجنحة التيار الإسلامي التواجد في القطاع العمالي واستطاع حزب العمل " الاستقلال حاليا" بالتعاون مع بعض شباب وعمال المحلة تنظيم إضراب 6 ابريل 2008 والذي كان حدثا فارقا في تطور الحالة الثورية المصرية ويثبت العمال في كل مرة أنهم روح الثورة وطليعتها الكبري.

ازداد معدل الاضرابات والاعتصامات العمالية واستطاعت الضرائب العقارية الخروج من عباءة الاتحاد العام لنقابات مصر وانتزعت انشاء نقابة مستقلة سنة 2008 نتيجة لاستمرار تأميم العمل النقابي لصالح السلطة؛ ولا زال الجدل القانوني دائرا حول الاعتراف بشرعية تلك النقابات ووصل الأمر إلي اتهامها بممارسة الإرهاب؛ ويتضح أن السلطة تري كل الكيانات أو المؤسسات التي تريد كسر سيطرة السلطة المركزية علي السلطة والثروة هي كيانات إرهابية سواء كانت سياسية أو نقابية.

لم تستطع الموجة الأولي من ثورة يناير تحقيق أي شيء يذكر للعمال لأنها لم تستطع فعل أي شيء للمجتمع وكانت أحد أكبر إنجازاتها هو تعرية كاملة لشكل السلطة والطبقة الحاكمة في مصر؛ وكللت اليسار المصري بعار تاريخي في ملف العمال. 

علي العمال؛ حتي بدون غطاء تنظيمي نقابي أو تيار سياسي حاضن لأفكارهم بعد سقوط اليسار واستمرار غياب "الإسلاميين"؛ أن يناضلوا داخل قطاعاتهم العمالية للحصول علي حقوقهم مع التأكد أن إصلاح القطاع العمالي ليس عملا نقابيا فقط في إطار الحقوق المالية والقانونية؛ ولكنه بالأساس عمل سياسي حيث ينعدم جدوي العمل النقابي في إطار بنية سلطوية فاسدة. لذا فالثورة الكاملة أحد أهم الأهداف التي يتوجب علي العمال التحرك بها كي يستطيعوا بناء كيانات نقابية داخل سلطة بشكل مختلف يملك الشعب- كل الشعب – جزءا كبيرا بها.

نكمل رحلتنا مع العمال في علاقتها بالتيارين الرئيسيين في مصر المقال القادم لأن شاء الله.
التعليقات (0)