كتاب عربي 21

مولد سيدنا الـ "بوتين"

محمد طلبة رضوان
1300x600
1300x600
لماذا جاء، لا ندري، اتفاقيات، مشاورات، دعم للإرهاب، أو للحرب ضد الإرهاب، لكي نغيظ أمريكا، لكي يزداد المناخ اضطرابا، واختناقا، ليس من حق المواطن أن يعرف، وحسبه من البركة زيارة سيدنا الـ"بوتين".

كأننا هذا القروي الساذج في ثلاثينيات القرن العشرين، ذلك الذي لم ينزل القاهرة طيلة حياته ولن ينزلها، وإذا بسيارة ملاكي "نمر" العاصمة تشارك بهائمه الركض على الترعة، فيركض خلفها بدوره، يتنسم غبارها، ويصفق لراكبها، ويهلل له، وإذا غاب الراكب في بيت العمدة قليلا، رجع ليجد الناس من حول السيارة، فيهم من يلمسها، وفيهم من يشمها، وفيهم من يحاول تذوقها، فيما يتجرأ "العيال" على كراسيها إن كانت من النوع المكشوف، ويظل الواحد منهم يحكي لأقرانه الذين غابوا عن المشهد روعة اللقاء بينه وبين سيارة البندري، القادم من المحروسة، وتنسج الأساطير حول لحظة اللقاء، وكيف هبط الكائن القاهري الفضائي من بارجته النفاسة يرتدي حذاء بنفسجيا، وجوارب صفراء فاقع لونها تسر الفلاحين، ويتصاعد من إبطه رائحة الصابون النابلسي، والكولونيا.

كأننا هذا المسكين البسيط، ربيب حواري الأربعينيات، الذي ينتظر زيارة مسؤول، أو ممثل نصف مشهور، أو أي شخصية شبه معروفة تستقل سيارة كاديلاك، تشبه تلك التي نزلت منها شادية إلى حارة السد في فيلم "معبودة الجماهير" حين تنازلت وهي النجمة المشهورة وذهبت لزيارة الكومبارس إبراهيم فريد، عبد الحليم حافظ، فزغردت النساء، وانتفض الرجال، وقامت الحارة على قدم وساق، كنس، ورش مياه، وكتابة عبارات ترحيب على الحوائط، وسعادة غامرة، لا تعرف لها سببا، سوى فرصة سكان تحت الأرض بأن يلتقوا بأي أحد من هؤلاء الذين يمشون فوقنا.

كأننا بلد من الدرجة العاشرة، جاء لزيارته واحد من بلاد درجة خامسة، فظنناه مبعوث السماء إلى أهل الأرض، وطرنا به إلى سماواتنا السفلية، ونحن نغني، ونرقص.

لو أنك من سكان القاهرة، أو ممن ابتلاهم زمانهم، رفعا لدرجاتهم، وتكفيرا لذنوبهم، بأن يمشوا في شوارعها وميادينها، في اليومين الماضيين، من المطار، إلى أهرامات الجيزة، فلعلك لاحظت، عفوا، يقينا رأيت، ما يلي:

-  صور بوتين على الحوائط تعلوها كلمة مرحبا

-  صور بوتين بجوار السيسي على "الأوت دورز"

-  صور بوتين على أعمدة النور

-  صور بوتين على الكباري

-  صور بوتين وقد وقف بجوارها ضابط من الداخلية أو أمين شرطة لكي يحرسها

-  صور بوتين في دار الأوبرا المصرية!

-  معرض الكتاب وهو يفتح أبوابه ربما لأول مرة في تاريخه مجانا أمام زواره كرامة لمولد سيدنا الـ"بوتين"

-  جميع الطرق مغلقة، ومزدحمة، لأن بوتين، لم يمر من هنا، لكن ربما يفعل.


ثم ماذا؟، لا شيء، يموت الشباب في الشوارع بأيدي داخلية السيسي، لأنهم لم يقطعوا تذاكر الدخول إلى ستاد بوتين، القاهرة سابقا، فيما يجلس صاحب الاستاد في مكان ما، فخم، ينظر إلى المدينة السعيدة، وإضاءاتها الرائقة، القاهرة دائما جميلة حين تنظر إليها من فوق، وذلك بعد أن حضر عرض الباليه اللطيف في درا الأوبرا، حفل عشاء، وعرض باليه، على شرف دماء الوايت نايتس، لعلك تذكر أن المصريين أخيرا وجدوا من يحنوا عليهم بعد أن كانوا محرومين.

لست بحاجة إلى أن أذكرك أن مراسم استقبال الرؤساء والأمراء في بلاد أخرى تحترم نفسها، وقيمتها، وتاريخها، تصل أحيانا إلى درجة امتناع رئيس البلاد عن الذهاب بنفسه إلى المطار، وأن إظهار كل هذا "الهوس" بزيارة رئيس دولة لم تعد لاعبا رئيسا منذ عقود، لا يعني سوى أننا أصبحنا في أسفل سافلين، لا كرامة، ولا تظاهر بالكرامة، يزورنا بوتين فنتعامل معه كأنه رئيس الاتحاد السوفيتي في زمان الحرب الباردة، وليتنا اكتفينا بذلك، إنما بالغنا في "الأفورة" إلى درجة يشعر معها كل مصري بأن صورة بوتين توشك أن تنزل من الصنابير بدلا من مياه المجاري المقطوعة.

في زمان مبارك، كان أحد لواءات الجيش السابقين رئيسا لمكتبة عامة، لا تدري كيف، لكن هذا ما يحدث في مصر منذ 60 عاما، لواء ومكتبة، لا بأس، وفد من اليونسكو جاء لزيارة المكتبة، فانبرى شباب الموظفين من خريجي كلية الآداب قسم المكتبات في ترتيب الأرفف، بشكل حضاري، وتجهيز الورود، والبنات الجميلات، والابتسامات الدبلوماسية، فإذا بسيادة اللواء يصرخ في الجميع، اصطفوا، طابورا واحدا، انتباه لكي نحافظ على الضبط والربط أمام الضيوف، تحاول إحداهن تفهيمه أن الوفد القادم له طبيعة ثقافية، وجاء لزيارة مكتبة، لا وفد من العسكر جاء للتفتيش على كتيبة، وبعد مناقشات استهلكت الوقت كله، وقف الشباب الجامعي في الطابور لاستهداف عناصر من وفد اليونسكو والتصويب عليهم فور دخولهم أرض المكتبة.

فلسفة التشريفة هي التي يحكمنا بها الجنرالات على كافة الأصعدة، فليحترق المضمون، المهم منظرنا، من قصر الاتحادية إلى عشش الترجمان، ومن الميادين والشوارع والحارات، إلى الأوبرا، وعروض الباليه، والمكتبات، ليس المهم لماذا نفعل، ولا أين، ولا ماذا نريد، المهم أن ينتظم الطابور، ويتكيف الرئيس الضيف من وسامته وبياضه في الصور والبوسترات، تلك التي ندفع ثمنها من ضرائبنا،  بوسترات الدب الروسي التي قهرت بوسترات أبو إسماعيل الأمريكاني، وحققت على أرض الكنانة ما عجزت الجيوش عن تحقيقه على أرض الواقع، يبدو الأمر عبثيا، هزليا، مقرفا، موت، وباليه، قتل، وعشاء هاديء على أضواء ليل القاهرة الساحر، أمهات ثكالى يتسلمن جثث أولادهن من مشرحة زينهم التي لم تجد مكانا للشهداء وألقت ببقيتهم في الردهات، وزيارة تستنزف عن رضا وحبور تشريفات الدولة وميادينها وشوارعها، وأموال ضرائبها، ونورها ومياهها المقطوعين، مولد ولا خلق ليهنأوا بالنذور والأعطيات، مولد ولا مدد، مولد يوحي ببدايات، وبقاء، والواقع أن الرحيل يسري في دماء المكان والزمان، يقتحم عليهم حصونهم التي ظنوا أنها مانعتهم، يحشو، بدلا من أجسامهم، بزاتهم العسكرية، فيقاومونه بالصخب البليد، غدا قريب.
التعليقات (0)