كتب صديق افتراضي في حسابه الشخصي على موقع "فيسبوك" ما اعتقد أنه طرفة مضحكة.. "محسن مرزوق (يسأل): سيدي الرئيس، سيدي الرئيس، المنصف باي تحرق.. السبسي (يجيب): شنوة؟ شنوة؟ ياخي ما زال حيّ هو؟؟".
هههه انتهت الطرفة... وتستمرّ المأساة... مرّة أخرى تشبّ النيران في سوق المنصف باي، الذي يعدّ وجهة أبناء الشعب و"الزواولة" غير القادرين على اقتناء البضائع من الصنف الرفيع... يحترق لأسباب مجهولة فتسوّى المحلاّت بما تحويه من بضائع بالأرض، ليعاود الباعة بناءها وفتحها وتزويدها بالبضائع وهكذا دواليك...
في وطن لا يحترم نفسه، تشتعل الحرائق دائما في المكان ذاته للأسباب المجهولة ذاتها... ولا يتحرّك المسؤولون إلا لمعاينة الحريق كأنّهم يجدون لذّة في النظر إلى ألسنة اللّهب تأكل عرق الطبقة الوسطى وأحلام الطبقة الفقيرة بالبضائع المقلّدة... وعندما تخمد النار يعود المسؤول إلى بيته فرحا مسرورا فـ"يشعل" جهاز التلفاز وجهاز التدفئة شتاء أو التبريد صيفا وجهاز اللاّبتوب خاصّته لقراءة ما كتبته الصحافة حول زيارته الميدانية لموقع الحدث، وعندما يستبدّ به التعب ويغلبه النعاس يشعل جهازي إنذار السيارة والمنزل الفخم وينام قرير العين مرتاح البال والضمير... فطالما نام المسؤول مرتاحا، يمكن للشعب أن يرتاح في نومته الأخيرة...
لم يضرب حريق المنصف باي كاريزما الباجي... فهي كالصخرة أو أشدّ، أكاد أجزم أنّ أعتى المقاتلات الحربية الصهيونية والأمريكية مجتمعة لا يمكن أن تحرّكها قيد أنملة... فما بالك بأن تهزّها أو تكسّرها؟! الباجي وحده ضرب كاريزما الشعب التونسي الذي يحلو لأصدقائه وأبنائه في الخارج وصفه بالاستثناء... من المؤكّد، أن انتخاب رئيس طاعن في السنّ إثر ثورة أشعل فتيلها شباب غاضب يعدّ أمرا استثنائيا في حدّ ذاته...
أخطاء الباجي قائد السبسي لا يجب أبدا مقارنتها بأخطاء من سبقه إلى قصر قرطاج... فقد جمّع هذا الأخير من زلاّت اللّسان والهفوات ما يصلح لمنافسة علم تونس الكبير المنتظر على دخول الغينيس بوك... وزلاّت الباجي يمكن أن تغتفر لأنها صادرة عن رجل طاعن في السنّ، تماما مثلما يحلو لنا أن نغفر لجدّاتنا وخالاتنا وعمّاتنا وجاراتنا العجائز مناداتهنّ لنا بـ"أقذع النعوت" في إطار الفذلكة و"الجوّ"... لم، إذن لا نحبّ زلاّت الباجي مثل حبّنا لزلاّت جدّاتنا؟
الفرق هنا، أنّ جدّتي وجدّة أغلبية قرّاء هذه السطور لسن متربّعات على عرش الرئاسة في قرطاج الجميلة... وفي حين لا تمسّ مناداة الجدّة لحفيدها بـ"يا كلب" من كاريزمتها شيئا، تهوي زلاّت السبسي على رؤوسنا كالصاعقة بعد أن تكون قد ضربته في كاريزمته... وهنا، يمكنني أن أجيب عن السؤال الصعب: "من يريد ضرب كاريزما الباجي؟" بالقول: "الباجي نفسه"... وهي لعمري، إجابة لا تخفى حتى على ابنة أختي التي تدرس بالأولى ابتدائي في مدرسة الدغباجي بالحامّة التي لا تزال تعلّم الأطفال الصبر على الدّهر وأهواله ومصائبه وصواعقه الكاريزماتية!
عندما ينادي السبسي فرانسوا هولاند بـ"فرانسوا ميتيران"، فتلك ليست زلّة لسان... إنّها تبيان عن حالة وجدانية عميقة يظهر من خلالها رئيس البلاد المفدّى متمسّكا بماضيه مواصلا العيش فيه... أولم يسبق له أن نطق باسم الزعيم الجزائري "فرحات عبّاس" وهو يريد ذكر الرئيس الفلسطيني الحالي "محمود عبّاس" فاستحضر في اسم واحد تاريخ بلدين؟
وعندما يضرب السبسي موعدا للرئيس الألماني في 7 نوفمبر، فتلك ليست زلّة لسان أخرى... إنّها تبيان هي الأخرى عن حالة وجدانية يعيشها عدد من التونسيين الذين يغالبهم الحنين إلى زمن التغيير المبارك... كبائع التذاكر التابع للـ"ترانس تي"، الذي وقفت أمام شبّاكه يوما أبحث عن وجهه وسط الضباب والأوساخ الغالبة على البلّور، ومددت له بثمن التذكرة قائلة: "14 جانفي يعيشك"...فلم يرفع رأسه ولا التفت نحوي حتى... ظننته لم يسمعني، فأعدت الكرّة... وكالعادة، لا حياة لمن تنادي... استغفرت الله في سرّي واستعذت به من الشيطان الرجيم قبل أن يقذف سبحانه في قلبي نورا فأدرك غرض الرجل من ادّعاء الصمم... ضربت على شبّاكه وخاطبته بالقول: "7 نوفمبر من فضلك"... وسبحان الله ما أعظمه وما أعظم شأنه... ذهب ما كان في الرجل من صمم ورفع رأسه نحوي مبتسما ثمّ مدّ يده لي بالتذكرة "العزيزة الغالية" قائلا في لحظة تاريخية لا ينعم بها ركّاب "الأخضر" كلّ يوم: "طريق السلامة".
"ما خيبك يا صنعتي عند غيري"، مثل تونسي جميل يحلو لموالي النظام الحالي أن يغمضوا أعينهم عن جماله ويصمّوا آذانهم عن وقعه المثير... فالذين لم يدّخروا جهدا بالأمس لمهاجمة عيوب المرزوقي ووزراء الترويكا، صاروا اليوم يدافعون عن نفس العيوب التي تبدّت واضحة جليّة في السبسي ووزراء الإتلاف الحاكم.
لم يكن بالإمكان أن نغفر جهل رفيق عبد السلام بطول سواحل البلاد التونسية، لكن يجب أن نغفر للطيب البكوش، وهو أستاذنا، جهله بعدم وجود فيزا سفر إلى تركيا! ولأن البيئة لم تكن مهّمة في عهد الترويكا إلى درجة تخصيص الناموس بوكالة تعنى بشؤونه، فإنّ هذا المقترح نفسه كان يكفي لدفع جماهير الرافضين إلى الاحتجاج أمام وزارة البيئة للمطالبة بتنحية الوزير الترويكي "آكل لحم الحمير"!
علينا أن نقف وقفة صدق مع أنفسنا لنقرّر متى يكون الخطأ خطأ ومتى يكون زلّة... ومتى يجب أن نغضب لزلاّت الرئيس ومتى يمكننا أن نتجاوزها ونصفح عنها... على أن يكون المعيار موضوعيا يستند إلى نوعية الخطأ ودرجته وانعكاساته، لا على انتماء الرئيس الحزبي وخلفيته الإيديولوجية أو هيئته أو وسامة وزراء حكومته وجمال وزيراته...
فإذا ما تجاوزنا عقلية حفر الجبّ للرئيس الذي لا يعجبنا ، فربّما نتمكّن من تفادي السقوط في الجبّ نفسه في عهد الرئيس الذي نحبّ..