مقالات مختارة

كسر «القوقعة»

حسام عيتاني
1300x600
1300x600
يخرج بطل رواية مصطفى خليفة «القوقعة» من سجن تدمر الرهيب، ليكتشف أنه يعيش في قوقعة وسجن أكبر. صديقه وسيم الذي أفرج عنه بعد فترة، يصطدم باستحالة الحياة في «سورية الأسد» حيث يمنعه ضابط الأمن الذي تزوج شقيقة وسيم قسراً وقهراً من زيارتها، فلا يجد السجين الخارج إلى الحرية المفترضة معنى للانعتاق غير إلقاء نفسه من بناء مرتفع، لينهي حياته جسداً محطماً على أسفلت الشارع بعدما حطمت آلة القمع روحه وآماله وحقه البسيط في الحياة.

اليوم، استولت «داعش» على السجن الجحيمي، وورد في الأنباء أنها أفرجت عن سجناء لم يُعرف عددهم بدقة، وقيل إن من بينهم من قضى هناك ثلاثة عقود ونيف، ومن جنسيات مختلفة. 

بعد رواية خليفة وغيرها من الشهادات التي دوّنها نزلاء سابقون في تدمر كفرج بيرقدار وياسين الحاج صالح وغيرهما، يصعب تقدير حجم الضرر الذي لحق بالمفرج عنهم، جسدياً ونفسياً. ويصعب أكثر تصور كيفية عودتهم إلى عائلاتهم وقراهم ومدنهم، بعد الأهوال التي عانوا شخصياً منها، وبعد الزلازل التي تضرب بلدهم منذ أكثر من أربعة أعوام.

السؤال أكبر من مصائر أفراد وقعوا بين أنياب وحش القمع الأسدي، ومن صعوبات سيواجهها كل واحد منهم ومن أفراد عائلاتهم للتأقلم مع الظروف الجديدة، خصوصا عند من انقطعت أخباره منذ أعوام، وفق أسلوب العقاب المتبع عند «الأمن» السوري بإخفاء المعتقلين. 

السؤال الآن يتناول القوقعة الكبرى التي سيجد المفرج عنهم أنفسهم فيها على النحو الذي وجده بطلا رواية مصطفى خليفة في القوقعة الكبيرة المسمّاة سورية الأسد.

هل يعدّ الانتقال من سجن بشار الأسد إلى سجد «داعش» تحرراً؟ قد يقول قائل إن مجرد الخروج من وراء القضبان هو حرية وإن من غير اللائق أخلاقيا الانتقاص من الإنجاز الكبير المتمثل في نيل هؤلاء السجناء حرية ولو منقوصة وجزئية. 

وهذا جدال لن يصل إلى نتيجة بسبب البون الشاسع في تفسير معنى الحرية عند من هم وراء الجدران ومن هم خارجها.

لكن قبل استيلاء «داعش» على السجن، يتعين الانتباه إلى معناه في منظومة السلطة التي حكمت سورية ولبنان على امتداد عقود. كان السجن «دُرجْاً مهملاً» يركن النظام فيه من قرر التخلص منهم من دون أن يحدد موعداً لذلك. أشخاص لا مكان لهم في دولة البعث حيث «لا مكان إلا للتقدم والاشتراكية»، على ما قال مؤسس النظام وعرّابه، فيما من يقبع في السجن لا تنطبق عليه المواصفات التي حددها الأسد الأب وأعوانه. 

إنه الجحيم الأرضي الذي يعد المقيمين فيه للجحيم الأخروي. جحيم يملك مفاتيحه قضاة عسكريون وضباط وجنود لا يعرفون للأخلاق وللشرف معنى.

وإذا خرج سجناء تدمر اليوم من زنزاناتهم إلى سورية المدمرة (وعاد من قيل إنهم لبنانيون ما زالوا أحياء في تلك المقبرة)، فإن ما يحملونه إلى القابعين خارج أسوار السجن أهم كثيراً مما يمكن أن يقدمه الحاصلون على حريتهم المفترضة خارجها. 

يحمل الأسرى المحررون تذكيراً بليغاً ليس بالمآسي الشخصية والجماعية التي أودت بهم إلى غياهب تدمر وما يشبهه، بل بالأحرى بالأسباب التي جعلت تلك المآسي ممكنة وعامة ومسكوتاً عنها من قبل السكان المروعين والخائفين من ملاقاة المصير ذاته.

هؤلاء المحررون يشكلون علامة النهاية للحقبة الأسدية المرعبة، لكن ليس من ضمانة على أن حقبة لا تقل رعباً يؤسسها حَمَلة «هم هذه الأمة» ممن يبنون «سجون توبة» في المناطق السورية التي خرجت من سيطرة النظام. كسر «القوقعة» مهمة لا تتعلق فقط ببقاء بشار الأسد.




(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)
التعليقات (0)