كتب

الخروج على الحاكم في الفكر السياسي الإسلامي

خلاف بين التيارات الإسلامية حول شروط الخروج على الحاكم - أرشيفية
خلاف بين التيارات الإسلامية حول شروط الخروج على الحاكم - أرشيفية
تعتبر مسألة الإمامة قضية محورية ومركزية في الفكر السياسي الإسلامي منذ بواكير أيامه، وبسببها احتدمت الخلافات السياسية بين الصحابة، وازداد تأججها في الأجيال التالية لهم، وكانت كما وصفها الشهرستاني بقوله "وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة؛ إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان".

وكان من أهم قضاياها الأكثر إشكالا، قضية "الخروج على الحاكم" والتي بسببها ظهر "الفكر الخارجي" في المجال التداولي الإسلامي، والذي تولدت من رحمه، ثورات وحركات معارضة مسلحة بدءا من العصر الأموي، واستمرت متلاحقة في ما تلاه من العصور، لأنها كانت ترى وجوب الخروج على الحاكم، وخلعه لأنه ليس أهلا للحكم، بسبب فسقه أو ظلمه. 

في هذا الكتاب "الخروج على الحاكم في الفكر السياسي الإسلامي" يجتهد الأكاديمي الشرعي المصري، أستاذ الدراسات الإسلامية المساعد بجامعة طيبة بالمدينة المنورة، الدكتور جمال الحسيني أبو فرحة، في تقديم رؤية تضع القضية المطروحة في نصابها الطبيعي، بناء على فهمه لأصولها ونصوصها الشرعية، بعيدا عن مسالك المُفْرطين والمُفرِّطين.

تقوم تلك الرؤية على "أن الإسلام قدم لنا منظومة متكاملة لحل هذه الإشكالية، إشكالية "الخروج على الحاكم". تتكون تلك المنظومة من ثلاثة عناصر، إن تم الالتزام بها، فإنها ستؤتي ثمارها في معالجة القضية المطروحة. أول تلك العناصر هو فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وثانيها: تحريم الطاعة في المعصية، وقصر الطاعة على المعروف فحسب، وثالثها: تحريم منابذة الحاكم بالسيف ما لم يترك الصلاة، وما لم يظهر كفرا بواحا ظاهرا لا خلاف عليه".

يُستخلص من رؤية المؤلف في شرحه وبيانه لعناصر المنظومة ثلاثية العناصر، تقريره لمذهب الصبر على جور الأئمة، لورود جملة من الأحاديث النبوية الآمرة بذلك، وتحريم الخروج عليهم بالسلاح، ما أقاموا الصلاة، ولم يظهروا كفرا بواحا، مع ضرورة ممارسة فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من قبل العلماء في ما كان واقعا في دائرة اختصاصهم، وقيام عموم أفراد الأمة به في ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وإشاعة ثقافة "تحريم الطاعة في المعصية، وقصرها على المعروف".

يفرق المؤلف في ثنايا شرحه التفصيلي لتلك العناصر بين مشروعية الدفاع عن النفس والعرض والمال ضد كل معتد حتى وإن كان شخص الحاكم نفسه، وبين الخروج على الدولة الفاسقة بسيف يهدف إسقاط نظام الحكم، فلذلك شرائط أخر بينتها سنة الرسول -عليه الصلاة والسلام- في كثير من الأحاديث الصحيحة الصريحة وهي: "أن يترك الحاكم الصلاة أو أن يظهر كفرا بواحا لا خلاف عليه".

يجمل المؤلف فلسفة رؤيته تلك بأن "الحاكم الذي لم يترك الصلاة، والذي لم يظهر الكفر البواح لا شك أنه لم يفعل ذلك إلا لخوفه إما من شعبه أو من ربه، ومثل هذا الحاكم الذي يخشى شعبه أو ربه إن وجد آمرين له بالمعروف ليل نهار لا يخشون في الله لومة لائم، وإن وجد أعوانا لا يعينونه على معصية، وإن وجد شعبا لا يخشى منه على ملكه ما أقام الصلاة، وما لم يظهر الكفر البواح الذي لا خلاف عليه، ومع ذلك فهو شعب يحاسبه..، فأي ظلم هذا الذي يمكنه أن يرتكبه؟ وكيف؟ لا شك أنه لن يتجاوز الهنات والصغائر، وما يجري من الكبائر مجرى العثرة من غير استمرار عليها. وهو لا يوجب خلعا ولا انخلاعا...".

ولإظهار رأيه الوسطي، ناقش المؤلف آراء المُفْرطين والمُفرِّطين، فالمفرِّطون: هم الذين آثروا القعود في كل حين "ولو قتلت الرجال وسبيت الذرية... وأنكروا الخروج على السلطان ولم يروه"، و"سموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى حمل السلاح وقتال الفئة الباغية... فصاروا شرا على الأمة من أعدائها المخالفين". ومن هؤلاء "بعض أصحاب الحديث، وبعض غلاة المرجئة والجبرية.."
وأورد  المؤلف جملة النصوص التي احتج بها المفرطون على مذهبهم وناقشهم في فهمهم لها، وأتى في نقاشه على مقولات المرجئة، التي تجرد المعارضة الثورية من أساس شرعيتها الدينية في حكمها على أعمال الحكومات الجائرة بالكفر أو الفسق ما يشرعن خروجها عليها، والجبرية باعتبار أن الناس مجبرون على أحوالهم وأوضاعهم لأنها قدر إلهي لا يملكون دفعه وتغييره، معتبرا الجبر والإرجاء دعامتي كل نظام مستبد جائر يريد أن يوطد حكمه ناسبا نفسه للدين.

يجادل المؤلف فكر الجبرية "بأنا إذا كنا نجوع فنأكل، ونظمأ فنشرب، ولا يرى عاقل منا أنا بالأكل أو بالري نضاد قدر الله فينا، فكذلك فإنا متى ظلمنا ودافعنا عن أنفسنا كان ذلك بالطبع من القدر أيضا؛ وإلا فما الفرق بين مقاومة الظلم ومقاومة الجوع والعطش؟ ولماذا كان أحدهما يقف ضد إرادة الله دون الآخر؟".

أما المُفْرطون فهم دعاة الثورة والخروج المسلح، كما هو مذهب الخوارج والمعتزلة وبعض فرق الشيعة كالكيسانية والزيدية والإسماعيلية، وبعض أهل السنة والجماعة كابن حزم الأندلسي، وكذلك بعض الجماعات الإسلامية الحديثة والمعاصرة. 

وفي مناقشته لأدلة دعاة الثورة والخروج المسلح وهي عموم أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اعترض على استدلالهم لتعارضه "مع القاعدة الأصولية التي تقول: إن العام إذا ورد في النصوص الشرعية يؤخذ به على عمومه، إلا إذا قام دليل على تخصيصه. وقد ثبتت أحاديث عديدة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي مع صحتها يقوي بعضها بعضا على تخصيص هذا الحكم، وتمنع الخروج على الحاكم الفاسق بقوة السلاح ما أقام الصلاة ولم يظهر كفرا بواحا، أي ما كان هناك أمل في انصلاحه أو إصلاحه، ولم يتجاوز فسقه إلى حد إيراد الأمة موارد التهلكة". 

وأطال المؤلف النفس في مناقشة أدلة دعاة الثورة والخروج المسلح الأخرى، كاستدلالهم بحديث "ما أقام فيكم كتاب الله" وتكفير كل من لم يحكم بما أنزل الله، وعدم انعقاد الولاية للفاسق أو الظالم أصلا، واحتجاجهم بخروج الحسين بن علي على يزيد بن معاوية، واستنادهم إلى فتوى ابن تيمية في قتال التتار، التي ركز عليها صاحب كتاب "الفريضة الغائبة"، دستور جماعة الجهاد المصرية، لمؤلفه محمد عبد السلام فرج، الذي حكم فيه بكفر حكام الدول الإسلامية ووجوب قتالهم.

يخلص المؤلف بعد مناقشته الطويلة والمفصلة لأدلة "أنصار التفريط في الخروج أو الإفراط فيه" إلى الحكم عليها بالفساد، ورجحان المذهب الوسط الذي استخلصه من القرآن والسنة، المبرهن عليه بدلائل العقل ووقائع التاريخ. وبهذا - وفقا للمؤلف - "تتوافق النصوص ويرتفع ما بينها من تناقض ظاهري دفع ببعض أنصار الخروج على كل فاسق إلى زعم أن أحاديث الصبر الإيجابي منسوخة، وأنها كانت خاصة بمرحلة بداية الدعوة فقط قبل تشريع الجهاد (رأي ابن حزم)، وهو زعم باطل، فكثير من الأحاديث التي تدعو إلى الصبر الإيجابي تصرح بأن هذا الصبر المطلوب على أئمة الجور سيكون بعده صلى الله عليه وسلم..".

حاول المؤلف في صياغته للمذهب الذي وصفه بالوسطي أن يقف موقفا وسطا بين الإفراط والتفريط، فهو مع تحريمه للخروج المسلح على الحاكم الظالم أو الفاسق (المقيم للصلاة والذي لا يظهر الكفر البواح)، فقد أوجب ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (بما فيها منكرات الحكام وتجاوزاتهم) وحرم الطاعة في المعصية وقصرها على الطاعة في المعروف.

إن المؤلف بصياغته تلك يخالف بشكل ظاهر مسلك أولئك الذين يرون حرمة الخروج المسلح على الحاكم الظالم والفاسق، وفي الوقت نفسه يحرمون كل أشكال الإنكار عليه علانية، لأنها مظهر من مظاهر الخروج عليه، متذرعين بأحاديث وجوب الصبر على جور ولاة الأمر، ما أرخى العنان للاستبداد والفساد للاستيطان في ديار المسلمين، لأنهما لم يجدا جاهرا بالحق، ولا رادعا للمستبدين والفاسدين. 

التعليقات (1)
عبد الرحمان ويكان
الأربعاء، 16-09-2015 12:29 م
منهج الوسطية يقتضي منا نحن المسلمين ان نتموقع بين الافراط والتفريط في امور حياتنا وديننا حتى يتسنى لنا ان نقيم واجب العدل حتى على ذوينا ونتجنب الظلم الذي حرمه الله على نفسه قبل ان يحرمه عليها لكن الاشكال في رئيي هو فيما لا نص فيه وفيما تشابه ومن يفتي بالمروج على اي حاكم اذا اقتضى الامر ذالك فازماننا غير زمن السابقيين في بساطته وما استجد فيه من انظمة حكم وما تفرع عنها من قضايا ثقافية واقتصادية. ..الخ يجعل الحد بين طاعتنا الحاكم ومعصيته وصولا للخروج عليه امرا في غاية الدقة ومؤهلات من يفتي بالامر او بعكسه من الامور التي قد نفتقدها عند الكثير ممن يتصدون لهذا الامر والله اعلم.