كتاب عربي 21

قبل عشر سنوات كانت الضواحي الفرنسية تحترق

طارق أوشن
1300x600
1300x600
"هذا الحكم دليل على أن الحثالة أحرقوا الضواحي للمتعة الشخصية لا بسبب تجاوز في مطاردة بوليسية".

 بهذه الكلمات علقت ماريون مارشال لوبن، النائبة البرلمانية عن حزب الجبهة الوطنية اليميني الفرنسي وإحدى النجمات الصاعدة في صفوفه، على حكم البراءة التي حصل عليها شرطيين كانا اتهما في مقتل شابين بالضاحية الباريسية نهاية أكتوبر من العام 2005. صدر حكم البراءة في الثامن عشر من شهر مايو الأخير بعد عشر سنوات كاملة من التقاضي ليشكل "صدمة" حقيقية لمن عايشوا الأحداث، التي كانت مختلف المدن الفرنسية مسرحا لها قبل عشر سنوات، على إثر مقتل زياد بنة، التونسي الأصل، وبونا تراوري، الموريتاني الأصل، بضاحية كليشي سوبوا الباريسية. كان عمر زياد لا يتجاوز السبعة عشر عاما بفارق سنتين عن بونا.

الحكاية أن زياد وبونا كانا عائدين وبصحبتهما صديقهما الثالث الكردي الأصل محي الدين من مقابلة كرة قدم. ولأن أحد السكان شك في أمرهم فقد اتصل بالشرطة التي حضرت لعين المكان فما كان من الشبان الثلاثة إلا إطلاق سيقانهم للريح هربا من دورية الشرطة قبل أن يحتموا داخل إحدى المحولات الكهربائية التي لم تمهل اثنين منهما وأردتهما قتيلين احتراقا. أحد الشرطيين، وحسب تسجيل المكالمات مع مركز الشرطة، أبلغ المركز يطلب إرسال قوات إضافية قبل أن يضيف: وإن كانوا فعلا داخل المحول الكهربائي فلن يخرجوا منه سالمين. وكذلك كان...

كان ذاك يوما من أيام شهر رمضان، ومع انتشار الخبر بدأت الاحتجاجات في ليلة السابع والعشرين من شهر أكتوبر 2005 لتتطور ككتلة نار أحرقت الضواحي الفرنسية بعد أن انتقلت من باريس إلى مختلف المدن الفرنسية الأخرى واستمرت ثلاثة أسابيع بشكل أجبر السلطات الفرنسية على فرض حالة الطوارئ في الثامن من نوفمبر من السنة ذاتها، لأول مرة منذ حرب الجزائر (1962) اعتمادا على قانون الطوارئ الاستثنائي للعام 1955. النتيجة كانت إحراق ثمانية آلاف سيارة ومئات المباني الحكومية والخاصة وستة آلاف موقوف وحالة ذهول عامة في الأوساط الفرنسية، التي أفاقت على حقيقة أحزمة الفقر التي تحيط بالمدن الكبرى محرومة من الاستفادة من سياسة تنمية حقيقية تخرجها من الهامش، حيث تستقر منذ أن كدست فيها عائلات المهاجرين المغاربيين، على الخصوص، المستقدمين للعمل في المصانع والمناجم الفرنسية المحتاجة للسواعد لبناء اقتصاد البلد المنهار بعد الحرب العالمية الثانية.

ليست ماريون مارشال لوبن صاحبة كلمة "الحثالة" بل استعارتها من تصريح لوزير داخلية فرنسا إبان الأحداث، نيكولا ساركوزي، حين حضر إلى ضاحية لاكورناف معلنا عزمه "تطهير الضاحية من الرعاع"، وكان لتصريحه، وقتها، وقع صب الزيت على النار. العنف اللفظي كان دوما مقدمة للعنف المادي، وهو ما دفع السياسي اليساري الفرنسي جون لوك ميلينشون إلى اعتبار تعليق النائبة اليمينية نوعا من "إعلان الحرب الأهلية".

في العام 1995، أي عشر سنوات قبل أحداث الضواحي، شكل فيلم "الكراهية" لمخرجه ماثيو كازوفيتس الحدث في فرنسا. وفيه يروي المخرج يوما كاملا لثلاثة شبان من ضاحية باريسية استفاقوا على وقع ليلة دامية بين الشرطة وشباب الضاحية على إثر إصابة أحد أبنائها بطلق ناري ودخوله مرحلة غيبوبة أثناء اعتقاله بمركز أمني. استوحى الفيلم أحداثه من قصة واقعية كان ضحيتها ماكومي مباولي، 17سنة، الذي قتل بطلق ناري في الرأس أثناء فترة اعتقاله بالدائرة الباريسية الثامنة عشرة سنتين قبل ذلك. 

في المشهد الأخير من الفيلم يعود الشبان الثلاثة، فيتز وسعيد وهوبير، إلى سكناهم بعد ليلة قضوها بمركز العاصمة باريس. وبمجرد افتراقهم تصل دورية أمنية إلى المكان، ودون مقدمات تبدأ في استنطاق سعيد وفيتز الذي يسقط صريعا جراء طلق ناري، غير متعمد، من مسدس شرطي. يقترب هوبير من الشرطي ويشهر الاثنان مسدسيهما في وجه بعض قبل أن يعم الظلام الشاشة ونسمع طلقا ناريا لا نعرف له مصدرا.

كان مسدس هوبير هو الغنيمة التي تحصل عليها فيتز خلال أحداث الليلة السابقة، وحلم طوال الفيلم باستخدامه ضد الشرطة في حال وفاة ابن الضاحية "عبديل". مات عبديل وعدل فيتز عن قراره بضغط من هوبير. لكن الأخير لم يجد بدا من إشهاره و"استخدامه" انتقاما لكرامة لا تنفك تهدر في خضم كل إنزال أمني أو دورية شرطة عادية.

المشهد كان على خلفية صوت هوبير وهو يقول: "هي حكاية مجتمع يسقط من ارتفاع خمسين طابقا. ولطمأنة نفسه يظل يكرر عبارة حتى الآن كل شيء على ما يرام... حتى الآن كل شيء على ما يرام. لكم الأهم لم يكن السقطة/الارتطام بل الهبوط". 

ذاك حال الضواحي الباريسية التي صار سكانها مجرد مواطنين من الدرجة الثانية، وصار فيها الواقع مختصرا في "أطفال يجرون حين يرون دورية شرطة. ورجال شرطة يجرون لأنهم يرون أطفالا يجرون، وكأن الجري حين نرى دورية شرطة صار تجاوزا للقانون في أحياء محددة دون غيرها".

شرطي من أصل عربي: أنت لا تعرف شيئا؟ من اعتدوا على عبديل سيعاقبون.

فينز: أنت تحلم.

الشرطي: أنت تخلط الأشياء.أغلبية رجال الشرطة موجودون هنا في الشارع لحمايتكم لا للاعتداء عليكم.

داخل مركز الشرطة يتبادل فينز وهوبير نظرات حادة ملؤها الانتقام مع رجال شرطة غاضبين من الهجوم الذي تعرض له المركز. وعلى الحائط نقرأ كلمة "الانتقام".

يستمر الحوار خارج المركز كما كان في الجزء الأول. فالمركز مسرح دائم لطرق أخرى معروفة للتعامل مع المعتقلين من أبناء الضواحي غير الحوار وتبادل الكلمات.

الشرطي: لم أعد أتمكن من فتح قنوات حوار مع الشباب وأنا قديم هنا وهم يعرفونني. كيف سيكون الوضع مع شرطي مستجد؟ لن يستطيع الصمود شهرا واحدا.

سعيد: وشاب عربي داخل مركز الشرطة لن يصمد لساعة من الزمن.

هو مشهد من فيلم "الكراهية" يلخص بخطابه الحاد الصورة السلبية المتكونة لدى طرفين تركا في مواجهة بعض. الشباب الذي لا يرى من الجمهورية غير أجهزة الأمن، والشرطة التي عهد إليها بضبط قنابل موقوتة على شكل أحياء سكنية متناسلة. فقد كتب للضواحي أن تجمع كل أمراض الجمهورية وأن تواجه الأخيرة سكانها بالمنطق الأمني التحكمي. وإن أظهرت سخاء في اتجاههم فلا يعدو الأمر تجديدا لواجهات المباني وقليلا من الدعم لجمعيات تعتقد الحكومات، عن خطأ، أن بإمكانها القيام مقام مؤسسات الدولة في وقت تتعاظم فيه مشاكل الضواحي في غياب سياسة إرادية ومندمجة للمدينة، بالرغم من وجود وزارة كاملة لها في عدد من الحكومات منذ أن تسلمها برنار تابي، أيام مجده السياسي، ليتحول في الأخير إلى سجين وفاقد للأهلية المدنية والسياسية وبعدها هاربا خارج البلاد في أعقاب "قضية دولة" استعاد خلالها جزءا من أمواله بطرق مشبوهة تورط فيها رجال ساسة معروفون. وفي مسار وزير المدينة تلخيص لمسار الضواحي وشبابها. 

وفي ظل فشل اليمين واليسار المتعاقبين على حكم البلاد في إيجاد الحلول للبؤس الاجتماعي المتفشي، أظهر استطلاع للرأي أجري مؤخرا أن أكثر من ثلاثين بالمائة من سكان الضاحية الباريسية يعتقدون أن حزب "الجبهة الوطنية" اليميني قادر على تحسين الأوضاع وتغييرها للأحسن. حزب "الجبهة الوطنية" بنى خطابه السياسي ولا يزال على أن أصل الداء بفرنسا يعود للمهاجرين ولسياسة "لم الشمل العائلي" التي مكنت العمال المهاجرين من استجلاب عائلاتهم للعيش بفرنسا. وأين في فرنسا؟ بالضواحي.

ولأن الضاحية مجرد ورقة انتخابية يتلاعب بها الساسة فقد انطلق "كلاب السباق" لاستمالة الناخبين من جديد. الرئيس فرانسوا هولاند اختار زيارة ضاحية "لاكورناف"، نكاية بخصمه المحتمل نيكولا ساركوزي الذي أطلق من هناك عبارته الشهيرة "الحثالة"، لكن الرئيس ووجه بالصفير وهو يعلن عن مشروع جديد للنهوض بالضواحي وإعطائها فرصة جديدة للانخراط في المجتمع الفرنسي واحترام قيمه.

أما رئيس الوزراء إيمانويل فالس فقد تحدث عن "أبارتيد".

عبديل في السينما، و ماكومي مباولي وزياد بنة وبونا تراوري وكثيرون آخرون مجرد نماذج لواقع معيشي يبدو أن الظروف لا تزال متوفرة، عشر سنوات من ثورة الضواحي، لأن تشتعل من جديد. والمسألة مسألة وقت فقط في انتظار من يضغط على الزناد لتنطلق الرصاصة..

هوبير (موجها كلامه لفينز): لو كنت دخلت المدرسة لتعلمت أن الكراهية لا تولد إلا الكراهية.

فينز: أنا لم أذهب إلى المدرسة. والحياة علمتني أنك إن مددت لهم خدك اليوم فلن يكتفوا بل سيتمادون للحصول على شيء آخر..

كان هذا مشهدا من فيلم (الكراهية) الذي تنبأ بأحداث وقعت عشر سنوات بعد إنتاجه لكن فرنسا اكتفت بتتويجه في المهرجانات والاحتفاء به في الشاشات.
التعليقات (0)