مقالات مختارة

ما الإرهاب؟

التهامي مجوري
1300x600
1300x600
يبدو من خلال "المبادرة الإسلامية" التي أطلقتها المملكة العربية السعودية في محاربة الإرهاب، والتي عبأت لها 34 دولة، إن العالم قد حسم الأمر في مفهوم مصطلح الإرهاب، الذي ظل يتأرجح أكثر من نصف قرن على الأقل، وبالتحديد منذ خمسينيات القرن الماضي، وإن صعب علي الآن تحديد تاريخ ظهور هذا المصطلح في منظومة السياسة الدولية، فإن ما بين يدي من أحداث تعود به إلى حركات التحرر الوطني، حيث استعمل الاستعمار فيها هذا المصطلح، لمواجهة الحركة التحررية في العالم الإسلامي؛ بل لا غاية له إلا تلويث حركات التحرر بما ليس فيها من قيم فاسدة.

واجتماع 34 دولة على محاربة أمر ومواجهته، كان تعريفه محل خلاف ولا يزال، وكان مستعملا في محاربة قيم سياسية تحررية، يعني أن هذه المجموعة من الدول، قد أضحى لها تصور للموضوع ومضمون مفهوم للمصطلح، فاجتمعت على محاربته، للقضاء على هذه القناعة التي عجز العالم عن تصورها منفصلة عن حراك منظومة السياسة الدولية، وذاتية الدول الفاعلة فيها، أو أنها دخلت اللعبة من بابها الواسع كوكيل عن تلك الدول الفاعلة، ليخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي شعوبهم.

وهنا لا يعنيني الكم من الدول التي ساهمت في بلورة هذا التوجه وإقامة هذا التحالف، أو التي أقحمت بغير علمها أو التي قاطعت، كما لا أناقش توقيته والغاية الحقيقية منه، لا سيما وإيران قد تغولت في المنطقة، وتربعت على ساحة من النفوذ أكبر من حجمها الحقيقي، فضلا عن أنه كان على حساب قوى إقليمية أخرى، بقدر ما يعنيني البحث في القاعدة التي بنت عليها هذه الدول الـ34 قناعاتها في محاربة الإرهاب؟ وقبل ذلك كيف أجمعت على تصور له يؤهلها لأن تغامر بشعوبها في محاربته؟

لقد استعمل الإعلام الفرنسي هذا المصطلح "الإرهاب" في وصفه للمقاومة الجزائرية أثناء ثورة التحرير الوطني، وقد نقلت إحدى الصحف يومها أن مجموعة من الإرهابيين دخلوا من الحدود الشرقية –التونسية/الجزائرية- يلبسون عمائم سوداء، وقد علق الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم رحمه الله، عن هذا الخبر في إحدى كتاباته في بداية الثمانينيات من القرن الماضي قائلا: "سبحان الله خمينيون قبل الخميني" !!، حيث كانت الثورة الإيرانية يومها محل إعجاب العالم الإسلامي.

وإذا كان هذا المصطلح قد استعمل مع المجاهدين الجزائريين الذين حملوا السلاح من أجل تحرير بلادهم، فلا أشك أنه استعمل أيضا في حق آخرين ممن واجهوا قوى الاستعمار المستكبرة، لاعتبارات استراتيجية دولية تحكمها قيم إرادة التحرر في مواجهة الميثاق الاستعماري، في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.. وغيرها، ومن قياداتها كاسترو وتشي غيفارا وكارلوس ومحمد بوديا...إلخ، بعد ذلك.

ولكن بعد الحرب العالمية الثانية وإقرار مبدأ تقرير مصير الشعوب ودخول العالم الحرب الباردة، تحول مصطلح الإرهاب من الاستعمال الدولي في صراعات بين استعمار غاشم وشعوب مستضعفة، إلى استعمالات للاستهلاك الداخلي، وأكثر ما استعملت هنا في محاربة الإخوان المسلمين في عز صراعهم مع الرئيس جمال عبد الناصر، وفي خلافاتهم مع خصومهم القوميين والشيوعيين، وذلك لأنهم أنشأوا تنظيما مسلحا كجناح عسكري للجماعة في عهد الملك فاروق أطلقوا عليه اسم التنظيم الخاص، ولكن الأحداث داخل مصر والتضييق الذي كانوا يعانون منه في هذه الظروف استدرجوا لاغتيالات لم تكن في برامجهم، حسب تصريحات قيادات الجماعة والتنظيم، حتى أن الإمام البنا رحمه الله وصف بعض من قاموا بهذه الاغتيالات بقوله "ليسوا إخوانا ولا مسلمين"، ومع ذلك ظلت هذه الأخطاء هي البداية والنهاية لمشروع الإخوان وهي خلاصة تجربتهم في نظر خصومهم تطاردونهم أينما حلوا وارتحلوا. فما دام لهم تنظيم مسلح فهم إرهابيون..، ولكن بحكم أن منطق الصراعات السياسية لا يعطي شرعية لمصطلح ما إلا بالقدر الذي يعبر عن مضمونه، فبقي المصطلح يتأرجح بلا مضمون ثابت يعبر عن قيمة ثابتة، يكيفه مستعمله كما يشاء، ولذلك كان الإخوان في عرف النظام المصري والموالين له إرهابيون يومها ولكنهم بمجرد ما يخرجون من مصر لا يصبحون كذلك؛ بل إن بعض الدول استضافتهم كلاجئين فارين من بطش النظام الناصري.

لا شك أن المرء يتساءل، لماذا تنشئ جماعة دعوية تربوية إصلاحية كجماعة الإخوان جناحا مسلحا؟ والجواب أن الجماعة أنشأت هذا التنظيم خصيصا للجهاد في فلسطين، كما تقول قياداتهم وقيادات هذا التنظيم، وبالفعل فقد شاركوا في حرب اليهود في فلسطين في سنة 1948، ثم هناك أمر آخر وهو أن هذه المرحلة التاريخية، من الخمسينيات والستينيات، تميزت بالحراك التحرري بواسطة العنف الثوري، ولذلك لم يقتصر استعمال العنف على الإخوان وغيرهم من الجماعات الإسلامية بعد ذلك، وإنما كان الشيوعيون والقوميون الثوريون، كلهم يعتمدون هذا النهج، ومع ذلك كانوا ينعتون خصومهم بالإرهاب، ولو من غير استعمال العنف، ورغم أن المنطق واحد، وهو استعمال العنف في تحقيق مكاسب سياسية... وسلسلة الانقلابات والمحاولات الانقلابية في العالم الإسلامي لم تتوقف إلى مطلع الألفية الثالثة، ولم نسمع عن انقلابي واحد وصف بالإرهابي، إلا عند خصوم له.

في هذا الجو المتسم بالعنف الثوري كقيمة سياسية إيجابية، ساهمت في تحرير البلاد العربية الإسلامية من الاستعمار، استصحبتها المعارضة السياسية بعد الاستقلال كقيمة لاستعمالها في الصراع السياسي داخل الدولة الواحدة، فاستعملها القوميون والشيوعيون وجميع القوى الوطنية المتباينة، ومع ذلك لم توصف حركة بالإرهابية، من غير الإسلاميين، ابتداء من عنف أجنحة الضباط الأحرار في مصر، ومرورا بمعارضي النظام الجزائري بعد الاستقلال –حسين آيت أحمد، الطاهر الزبيري..- وانتهاء بالانقلابات السورية، التي حطمت الرقم القياسي في الموضوع.. في كل هذه الحركات لم توصم واحدة منها بالإرهاب، ولكن لما تحول هذا العنف الثوري الذي يحمل قيمة تحررية، إلى الاتجاه الإسلامي الذي ألبسه شرعية بما يتوافق مع منظومته الفكرية، مع الإبقاء على المضمون التحرري، وهو مصطلح الجهاد، انقلب العالم على هذا التوجه، إلى أن أصبح اليوم مصطلح إرهاب يكاد يكون هو الإسلام.

لقد بقي الاستعمال محدودا في الإطار الداخلي، فيما بين العصب، وفي موقف القوى المحلية من الاتجاه الإسلامي، أي منحصر في موقف العلمانيين واللائكيين من التيار الإسلامي، ولكن على المستوى الدولي، بقي الغرب يستثمر المصطلح في كل ما من شأنه عرقلة التحرر والتنمية والاستقلال،  ورغم عجز الغرب عن وضع تعريف له، إلا أن استثماره له بقي دائم يسير في نفس المنهج، الذي يهدف إلى الاستمرار في إذلال الشعوب المستضعفة.

والاختلاف في تحديد مضمون المصطلح لا يعني أن العالم عجز عن وضع مصطلح لهذا الفعل أو السلوك، وإنما لأن العالم يريد لهذا المصطلح أن يبقى فضفاضا، يصنف فيه الفئات المغضوب عليها في أجندته، ولذلك نجد أن الحركات الإسلامية التي اعتمدت العنف منهجا في نشاطاتها، كانت تنعت بالإرهاب سواء عند الغربيين أو عند أنظمة العالم الإسلامي. هذه التنظيمات تحولت إلى حركات مجاهدين عندما قرر التحالف الدولي إسقاط الاتحاد السوفياتي، ثم عندما تكتلت تلك القوى المجاهدة في جمع صفوفها فيما سمي يومها بالمجاهدين العرب بعدما تحررت أفغانستان، ووجهت سهامها في اتجاه فلسطين والقدس بقيادة الشيخ عبد الله عزام، لمحاربة الإرهاب الحقيقي الذي هو الإرهاب الصهيوني، انهار التكتل وتمزق الجمع، واخترقت البرامج ووجهت إلى حيث يكون المردود غربيا، على حساب الشعوب المستضعفة، ولذلك لاحظ الملاحظون إن نهاية الحرب الأفغانية السوفياتية، التي كان مقررا أن يعقبها جهاد في فلسطين، حسب برنامج عبد الله عزام وأسامة بن لادن، انحرفت قوى المجاهدين العرب إلى إعلان الجهاد على الأنظمة العربية والإسلامية، فيما عرب يومها بـ"الأفغان العرب" فكانت أحداث الثمانينيات والتسعينيات، باسم القاعدة أحيانا وباسم تنظيمات جهادية وتكفيرية محلية أخرى.. ليختفي الإرهاب الحقيقي المتمثل في الغرب والاحتلال الصهيوني، ويظهر للعيان "ما يسمى بالإرهاب".

والموضوع لم ينته بعد..، وإنما يضعنا في بداية الطريق، وهو ما هذا الذي يسمى إرهابا؟ خاصة وانه لا يمكن أن يعالج هكذا باتفاق 34 دولة على محاربته وهو غير معين ومحدد، إلا في صورة شكلية، الله أعلم بحالها وبمن وراءها، فيما يسمى بـ"داعش"، وإنما يكفي هنا أن نقول إن هذا التحالف له مبررات أخرى غير معلن عنها، وسيعلم الناس بعضها بعد حين. أما الإرهاب ومفهومه فسيبقى معلقا إلى أن تظهر معايير عادلة في العلاقات الدولية، وذلك لا يكون إلا عندما تكون مصلحة الشعوب مقدمة على مصالح الأنظمة. 
 
عن صحيفة الشروق الجزائرية
0
التعليقات (0)

خبر عاجل