قضايا وآراء

اتفاق الصخيرات ومستقبل بناء ليبيا الجديدة

محمد مالكي
1300x600
1300x600
تَّمكّن المُتحاوِرون اللّيبيون في مدينة الصخيرات المغربية من التوقيعِ على اتفاق نهائي يوم الخميس  17  ديسمبر/ كانون الأول 2015، وُصِف بأنه " اتفاقُ أمل"، وأنه أرضيةُ الحدّ الأدنى المشترك لفتح أفق جديد لإعادة بناء الدولة و الشرعية، في بلد مَزقت أواصرَه مَوجاتُ العنف والاقتتال،  وغَدت باقي ربوعه مهددةً بتمدّد تنظيم " داعش" ، وإرهابه.

ولأن التوقيعَ على الاتفاق كان مُخرَجاً منتظراً ومطلوباً من مُخرجات المفاوضات التي انطلقت منذ ربيع 2014 على ضفاف المدينة المغربية الشاطئية " الصخيرات"، ولكونه لم يحظَ بحضور كافة مكونات المجتمع الليبي ، فقد تعرضَ، قبل أن يَجِفَّ حبرُ توقيعه، لسيل من دعوات التأييد وموجات الاعتراض والنقد وحتى التظاهُر لمناهضتِه من أجل اسقاطه.

لذلك، يطرح الاتفاقُ العديدَ من الأسئلة، أبرزُها هل ينطوي على مُقومات إسعاف الليبيين، كل الليبيين، في إعادة كتابة تاريخ جديد لبلادهم، يمكنهم من وقف الاقتتال، وإلحاق الهزيمة ب "داعش"، والتوافق، بالحوار وعبرَه، على بناء شرعية جديدة، قادرة على المضي قدماً نحو كتابة دستور تعاقدي جديد، تنبثقُ منه مؤسساتٌ يساهم الجميعُ في إنشائها بإرادة، وحرية واستقلالية؟. وهل يقدِر الليبيون وحدَهم على رفع كل هذه التحديات، أم يحتاجون إلى دعم دولي؟. وإذا كان  هذا الأخير لازِما وضرورياً، أَلا يتحول إلى تدخل أجنبي من شأنه أن يفتح البلد على  مستقبل لا يمكن تصور معالمَه على وجه الدقة واليقين؟. إنها أسئلة من كثيرة  تضغط على عقول الليبيين، وتتحكم في صياغة مواقفهم تجاه الاتفاق الموقع، والآفاق التي تنتظر تطبيقه.

لِنَنظُر أولاً في فَحوى ما انطوى عليه الاتفاق، والمراحل التي رسمها  لمستقبل بناء ليبيا الجديدة. فوفق نص البيان المُعلن والمنشور جزئيا أو كليا، يقضي الاتفاق ب " تشكيل حكومة وفاق وطني تقود مرحلة انتقالية تنتهي بإجراء انتخابات تشريعية بعد عام، وتوسيع المجلس الرئاسي ليتكون من تسعة أشخاص ، رئيس وخمسة نواب  وثلاثة وزراء دولة". كما  تضمّن تنصيصاً صريحاً بتشكيل "السلطة من ثلاث مؤسسات ، هي: مجلس النواب ويمثل السلطة التشريعية، ومجلس الدولة وهو بمثابة غرفة برلمانية استشارية، ومجلس رئاسي.."، إضافة إلى تأكيده على " انتقال كافة صلاحيات المناصب العسكرية والمدنية العليا المنصوص عليها في القوانين والتشريعات الليبية النافذة إلى المجلس الرئاسي فور توقيع الاتفاق".

أما القرارات ف تتخذ ب " إجماع مجلس رئاسة الوزراء". وبخصوص الآجال والمدد المنتظرة لإنجاز مراحل الانتقال ، فحدد الاتفاق أربعين يوماً  للمجلس الرئاسي، بقيادة  " فايز السراج"، وتمثيلية عضوين عن كل إقليم  من  أقاليم ليبيا الثلاثة ) الشرق والغرب والجنوب( ، للإعلان عن الحكومة التي ستقود مسيرة الانتقال بليبيا إلى إعادة بناء الدولة والشرعية ومؤسساتهما. و يروم الاتفاق إنجاز الحكومة حين التوافق على تشكيلها وشروعها في العمل الوصول إلى صياغة دستور والاستفتاء حوله، ومن ثمة الإشراف على إجراء الانتخابات التشريعية، التي ستُفرز من  يمتلك شرعية تمثيل ليبيا الجديدة في مؤسستي البرلمان والحكومة المقبلتين.  

طبعاً لابد من الإشارة  إلى أن الاتفاق لم  يحظ بإجماع الليبيين، بل حظي بتوقيع الحاضرين ، وأن مكونات من المجتمع الليبي استنكفت عن الحضور، أو أعلنت اعتراضها على الاتفاق فور الإعلان  عن توقيعه. لذلك، كانت الكلمات المتبادلة في أعقاب التوقيع مُجمعةً على أن ثمة تحديات وصعوبات كثيرة ومتنوعة تنتظر الاتفاق، أو كما قال المبعوث ألأممي إلى ليبيا " مارتن كوبلر " بوضوح " هذه نهاية وبداية، نهاية المفاوضات، وبداية عمل شاق لإدخال الاتفاق حيز التطبيق". والحقيقة أن ما ينتظر الليبيين من صبر ومكابدة أكثر مما بذلوا من جهود وعاشوا من تعقيدات. لذلك، يقتضي إنجاح الاتفاق مصفوفة من المتطلبات، وهي من نوع المتطلبات التي تستلزم الإصرار على توفيرها، والحرص على المحافظة عليها مُستمرة وموجهة للقادم من المراحل. 

لعل أهم متطلب وأكثرها إلحاحاً توسيع بناء التأييد حول الاتفاق الموقع عليه في السابع عشر من هذا الشهر في مدينة الصخيرات المغربية. أما بناء التأييد، أي القبول به واعتباره إطاراً توافقيا للبناء الجماعي لليبيا الجديدة، فيتطلب بدوره ترجيحَ ثقافة الحوار، والبحث عن المشترك، واعتماد فن تدبير الاختلاف والوصول إلى توافقات خلاقة وناجعة، ونبذ كل ما يمكن أن يرجع النخب الليبية إلى مربع الصفر. كما أن من متطلبات انجاح الاتفاق الانفتاح على كل من يتوسل فيه الليبيون حقا القدرة على دعم مشروعهم الجماعي في إعادة بلدهم،  وليس من يستغل مفهوم المساعدة والدعم لفرض معادلات تعمق آفة تمزقهم وخلق الفتنة بينهم..إنها متطلبات صعبة ومعقدة ، لكن ليست بالمستحيلة، إن استحضر الليبيون وحكماؤهم نداء وطنهم، وجهدوا بإخلاص من أجل إنقاذه مما يلف أعناقهم جميعا.

ستسمح المتطلبات أعلاه إن تحققت، برفع كفاءة  الليبيين على مواجهة التحديات، وهي كثيرة وقاسية، التي تعترض مسيرةَ إعادة بناء وطنهم. فمنها تحدي توفير مناخ المصالحة الوطنية بين كل الليبيين، قبائل ،وجهات، ومرجعيات حزبية وعقدية ولغوية، وشرائح اجتماعية متباينة الأوزان والمواقع. ولا يقلها أولوية تحدي الأمن ومكافحة الإرهاب الذي قضم ووضع تحت عباءَته أكثر من عشرين في المائة من ربوع البلاد. يُضاف إلى ذلك الوضع الإنساني للمُهَجَّرين والنازحين والذين غادروا ديارهم بغير حق، وتحدي الأحوال الاجتماعية التي ساءت، وضاق الناس بها ذِرعاً، في بلد غني بالثروات، وبنعمة ديمغرافية  محدودة العدد.. إنها عناوين للتحديات التي تنتظر الليبيين  المُوقِّعين على الاتفاق وغير الموقعين عليه، لكن المُوحَّدين في  إلزاميةِ الإنصات لنداء وطنهم الجريح ، وضرورة الاستجابة لتيسير سُبُل علاجه.
0
التعليقات (0)