مقالات مختارة

استجواب صار ضروريا

فهمي هويدي
1300x600
1300x600
في الصباح قام أمناء الشرطة بضرب وسب وسحل اثنين من أطباء مستشفى المطرية بالقاهرة، فقاما بتحرير محضر ضد المعتدين. وفي المساء تنازلا عن المحضر. وكتب أحدهما على صفحته قائلا: إنه وزميله حاولا الدفاع عن كرامتهما كأطباء، لكنهما أدركا أنهما لن يحصلا على شيء. وأنهما سيتعرضان لمزيد من الإهانة. وربما دخلا إلى السجن ولن يخرجا منه.

هذه القصة ظلت موضوعا يشغل مواقع التواصل الاجتماعي في مصر خلال يومي الخميس والجمعة الماضيين (28 و29 يناير). وبعدما نقلت إلينا بعض صحف السبت خبر التنازل فإنني أخشى أن يتصور البعض أن الموضوع طويت صفحته وأنه يمكن أن ينسى بمضي الوقت، ولا أعرف ماذا سيكون موقف نقابة الأطباء التي استنفرها ما جرى، إلا أنني أزعم أنها لا ينبغي أن تقف وحدها في التعامل مع الأزمة. ذلك أن حدودها تتجاوز النقابة. والإذلال والقهر الذي شابها يكشف عن وجه يهم المجتمع بأسره، وينبه إلى خطورة المدى الذي ذهب إليه توحش الشرطة واستهتارها. وهو ما تكشف عنه تفاصيل القصة التي نحن بصددها. ذلك أن أمين الشرطة ذهب في الصباح الباكر إلى المستشفى بإصابة بسيطة في جبهته، حسب تقرير الطبيب الجراح الذي استقبله، إلا أن صاحبنا طلب منه شهادة تتضمن معلومات مزورة عن الإصابة. وحين رفض الطبيب ذلك بحضور زميله ومساعديه فإنه تعرض للإهانة والسباب من قبل أمين الشرطة، الذي استدعى زميلا له في سيارة تابعة لقسم المطرية مع بعض الأمناء الآخرين. وهؤلاء قيدوه وأرادوا اصطحابه إلى القسم، وحينما رفض انهالوا عليه بالضرب وسحلوه وجروه حتى أدخلوه في سيارتهم وبعدما حملوه وأهانوه هو وزميله وأبقوهما في القسم بعض الوقت. طلب أحد الضباط إعادتهما إلى المستشفى مرة ثانية، حيث حررا محضرا بالواقعة سجلا فيه ما تعرضا له.

ما حدث بعد ذلك لا يقل سوءا وربما كان أخطر في دلالته. ذلك أن أمين الشرطة الذي اعتدى على الطبيب وزميله حرر بعد عدة ساعات محضرا في قسم الشرطة ضد الطبيب، اتهم الجراح فيه بالاعتداء عليه بالضرب وأيد ذلك بشهادة حملت اسم طبيب عظام وتحمل ختم مستشفى هليوبوليس (في مصر الجديدة) أفادت بأنه أصيب بكسر مضاعف بساقه اليمنى من جراء الاعتداء المزعوم. إزاء ذلك نسيت الواقعة الأولى التي تمثلت في ضرب وسحل الطبيب والاعتداء عليه بكعب «الطبنجة». وفتح تحقيق مع الطبيب المجني عليه الذي أصبح متهما بالاعتداء على أمين الشرطة. وأثناء ذلك أبلغ بأنه وزميله يمكن أن يحتجزا في قسم شرطة المطرية لمدة أربعة أيام لاستكمال التحقيق.

مورست على الاثنين ضغوط عدة من جانب ضباط الداخلية ورجال الأمن الوطني للتنازل عن المحضر الأول. إزاء ذلك فإنهما أصبحا مخيرين بين الاستجابة للضغوط والقيام بالتنازل أو التمسك بالمحضر والقبول بالاحتجاز في قسم المطرية لمدة أربعة أيام على ذمة المحضر الثاني. فاختارا التنازل وعاد كل منهما إلى بيته ذليلا ومنكسرا. في الوقت ذاته فإن زملاءهما في مستشفى المطرية كانوا قد قرروا الامتناع عن العمل وإغلاق استقبال المستشفى في حين دعا نقيب الأطباء إلى اجتماع طارئ لمجلس النقابة لبحث الأمر. إلا أنه ليس معروفا مصير هذه الإجراءات بعد تنازل الطبيبين عن الشكوى.
المشهد يستدعي عدة ملاحظات أهمها ما يلي:

* إن ذلك حدث من جانب شرطة قسم المطرية الذي يعرف باسم «السلخانة» ويشهد تاريخه بأنه أحد مراكز التعذيب التي لا يخرج منها المحبوس سليما، وفي تقرير لمركز النديم لعلاج ضحايا التعذيب أن القسم شهد 8 حالات وفاة من جراء التعذيب خلال الخمسة عشر شهرا الماضية.

 * إن الإهانة والإذلال لم يعدا من نصيب السياسيين وحدهم، وإنما أصبحتا سلوكا متبعا مع المواطنين العاديين من أمثال الطبيبين وغيرهما.

* إن الشرطة في تخويف الطبيبين استعانت بالنيابة التي هددتهما بالحبس كما أنها وفرت الشهادة الطبية المزورة التي بينت أن أمين الشرطة تعرض للاعتداء من جانب الطبيب وليس العكس.

 * إن ذلك يتعذر اعتباره سلوكا فرديا ولا حالة استثنائية لأن عضو نقابة الأطباء الدكتور خالد سمير ذكر أن الأطباء تعرضوا لخمسة آلاف اعتداء خلال السنوات الخمس الأخيرة، من رجال الشرطة وغيرهم، ولم يحاسب أحد على ذلك.

 * إن وكيلة نقابة الأطباء الدكتورة منى مينا شهدت بأن الطبيبين تعرضا للتهديد بالحبس من جانب عناصر الأمن الوطني، وهو ما اضطرهما للتنازل عن حقهما لكي لا يتعرضا لما هو أتعس.
الواقعة تعد امتدادا لشيوع استهتار الشرطة بكرامة المواطنين، كما أنها تجسد قدرتها على الالتفاف على القانون وتلفيق التهم للأبرياء. من خلال التلاعب في التحقيقات والشهادات الطبية. وهي خلفية تعني أن ثمة ثغرات وسلوكيات خطيرة لابد أن تصحح كي لا تتكرر نقمة المجتمع على الشرطة وسخطها على ما تمارسه من بطش. وحين يحدث ذلك في الوقت الذي تمتلئ فيه الصحف بأخبار الملايين التي توزع بغير حساب ودون وجه حق على بعض رجال الشرطة، فذلك يعنى أن ذلك المرفق المهم يحتاج إلى مراجعة جذرية وإعادة هيكلة شاملة.

 وهو ما يستحق استجوابا في مجلس النواب أرجو أن يحمله الذين يسعون إلى دعم الدولة، الذي أفهم أنه لا يتحقق بالتستر على بطش الشرطة وإهدار كرامة المواطنين.
التعليقات (0)