كتب

"الدولة الإسلامية" بين أزمة التأسيس وحتمية الحداثة

المؤلف: فكرة الدولة والسياسة عموما في هذا السياق التاريخي هي تطور موضوعي وضرورة تاريخية ـ عربي21
المؤلف: فكرة الدولة والسياسة عموما في هذا السياق التاريخي هي تطور موضوعي وضرورة تاريخية ـ عربي21
استقر في مجال المعرفة الإسلامية الكلاسيكية وصف "خلافة الراشدين" بالدولة الإسلامية النموذج، لأنها أرست مبادئ الإسلام الأساسية في السياسة والحكم والسلطة، وبدأ الانحراف عن تلك القيم والمبادئ حينما أُقحمت على الأمة أنماط حكم طارئة عليها، كولاية العهد والتوريث، وهو ما صبغ تجربة الأمة الإسلامية في الممارسة التاريخية السياسية بـ"سلطة العصبية" بعد مفارقتها لـ"سلطة الأمة" على إثر انقضاء مرحلة الراشدين. 

وقد ترتب على تلك الرؤية اعتبار "دولة العصبية.. التي تخلق جنينها من 36-41هـ، ناقصة الشرعية والأوصاف من الناحية الإسلامية، لما اعتراها من تغيير في نمط البيعة، وما داخلها من إكراه وإجبار، فتراجعت سلطة الأمة في اختيار من يحكمها بإرادتها الحرة، إلى التسليم بولاية القهر والتغلب، التي مكنت صاحب القوة والشوكة من بسط سلطانه ونفوذه، ليكون بذلك الحاكم الشرعي الذي تجب طاعته.  

لكن المفكر المغربي محمد جبرون في كتابه "مفهوم الدولة الإسلامية.. أزمة الأسس وحتمية الحداثة" الصادر سنة 2015 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يجادل بقوة بأن "دولة الراشدين أو الخلافة الراشدة لم تكن نموذجا سياسيا أو "دولتيّا" متكاملا، من الناحيتين النظرية والتاريخية، بل كانت مجرد مرحلة بحث عن النموذج، بعد انتهاء دولة النبي عليه السلام..".

وبرؤية مغايرة للراسخ في المعهود المعرفي الإسلامي، يصرح جبرون بأن "دولة العصبية (ما بعد الخلافة الراشدة) كانت تامة الشرعية وكاملة الأوصاف من الناحية الإسلامية، خلافا للشائع بين كثير من الناس، ففي طورها اكتسبت الدولة الإسلامية التاريخية نظريتها السياسية التاريخية التي استمرت حاكمة وضابطة حتى مشارف العصر الحديث".

وينتقد جبرون سلوك "أغلب الناشطين والمفكرين اليوم، المحسوبين على التيار الإسلامي"، بأنهم حينما يفكرون "في حداثة الدولة الإسلامية" يقفزون فوق تاريخ "دولة العصبية، ما بعد الخلافة الراشدة"، بدعوى أنه غير شرعي ومنحرف، ويتجهون رأسا إلى الخلافة الراشدة، باعتبارها تجسيدا للكمال السياسي في تاريخ الإسلام، ومورد الحداثة"، واصفا ذلك المسلك بأنه "أمر مجانب للصواب". 

لا يتردد المؤلف في إبراز أهدافه ومقاصده الأساسية من تأليف هذا الكتاب، فهو يسعى في فصل كامل "للتعريف بالنموذج التاريخي للدولة الإسلامية (دولة العصبية) بشكل موضوعي يعيد له بعض الاعتبار"، كما أنه لم يرتضِ المنهج الأصولي المعهود في قراءة النص القرآني والحديثي، بل سعى لتأسيس منهج آخر قائم "على الحوار المباشر بين النص والتاريخ"، واصفا منهجه ذاك بأنه يتوافق مع المنهج الذي أسسه "الصحابة والتابعين من بعدهم وأوائل المفسرين"، باعتباره "منهجا فعالا لقراءة القرآن وفهمه".  

منهجية القراءة وتاريخية المعالجة

بعد حديثه عن مناهج فهم القرآن لدى القدامى، ذكر جبرون ثلاث منهجيات سائدة لدى المعاصرين في فهم القرآن، أولاها: "نظرية معرفة القرآن" للدكتور محمد عابد الجابري، وثانيتها: "نظرية منهجية القرآن المعرفية" للسوداني أبي القاسم حاج حمد، وثالثتها: "نظرية تحليل الخطاب الديني لمحمد أركون، واصفا تلك المنهجيات القديمة منها أو الحديثة بأنها "تتنازعها رغبتان، رغبة تسعى لإغراق النص في التاريخ وأحواله، وبالتالي تحصر مضامينه الرسالية، ورغبة تسعى لتحرير النص من آثار الزمان، وتجعله متصلا بالعصر" متسائلا: "فأين نقف نحن من هاتين القراءتين في هذه المحاولة"؟. 

أشار جبرون إلى أن "استيعاب منهج الصحابة والتابعين (الذي يسير على خطاه في قراءته واستنباطه للمبادئ الكلية الحاكمة لمعيارية الدولة الإسلامية) في التعامل مع القرآن، يساعدنا في تجاوز آفتين منهجيتين ميّزتا علاقة المسلمين بالقرآن في العصر الحاضر:

الأولى: الارتهان لفهم الأوائل وتكرار فصولهم وجملهم، بحيث جعلوا من هذا الفهم سنة واجب اتباعها، وفي المقابل غفلوا عن السنة المنهجية في فهم القرآن، تلك التي جسدتها "قراءة" الصحابة، وهذه آفة كثير من الإسلاميين". 

الثانية: الحكم على القرآن حكمّا تاريخانيا، وهو ما يقلص منسوب الرسالية فيه إلى حدود دنيا، لا تكاد تلمس، ومن ثم لا يُعترف له بدور اجتماعي أو سياسي كبير خارج عصره، وأقصى ما نجده لدى هذه الفئة من "القراء التاريخانيين" بعض الاحتفاء بآيات العقيدة والأخلاق، ويؤلف هذا الاتجاه عدد من رواد الحداثة ورموزها". 

وبيّن جبرون أن منهجه في "القراءة" الذي سيجربه في هذه الدراسة في موضوع السياسة والدولة الإسلامية يستند إلى مجموعة من الاعتبارات المنهجية، من أهمها: الفصل بين القرآن بوصفه نصا مطلقا فوق التاريخ، وفهم المسلمين له على مر العصور.. والاعتقاد برساليته المطلقة التي تظهر آثارها في جميع فروع المعرفة الإنسانية ونشاطها، وتتطلب فقط الاجتهاد الفكري لاكتشافها والانتفاع بها، فالقرآن الكريم من هذه الناحية "معرفة معادلة للوجود الكوني وحركته".

تظهر مدى خطورة هذا المنهج المقترح من المؤلف لقراءة النص القرآني، بالوقوف على بعض النتائج التي توصل إليها في سياق بحثه لجملة من الأحكام الشرعية الثابتة في القرآن ومدونات الفقه الإسلامي (كحد الردة، وقطع يد السارق والسارقة، وحد الحرابة وخصوصا الصلب منه، وتوريث الأنثى وتمييزها عن الذكر...)، فاستنادا إلى بعض المراجع والمصادر، ومن أهمها "كتاب المحبر لمحمد بن حبيب (المتوفى 245 هـ..) الذي ذكر فيه أن "عددا مهما من الأحكام والقوانين والسنن والعادات التي انتقلت من الجاهلية إلى الإسلام (في مجالات الإرث والحج والطهارة والجنايات).

فاستنادا إلى تلك المعلومات التي نقلها من المصدر المذكور، أصدر أحكامه الجريئة بقوله: "هذه الأحكام القرآنية هي أحكام موافقة لمعهود العرب، وللبيئة العربية في مكة والمدينة زمان البعثة، وليس فيها ما يدل على مفارقتها للتاريخ". وأتبعها بخلاصة لا تقل جرأة عن الأولى، حينما قال: "ومن شأن التردد في قبول هذه الحقيقة ونتائجها الفكرية والسياسية من طرف النخب الفقهية المعاصرة أن يديم التوتر بين القرآن والحداثة المنشودة، فالثابت والمقدس والمطلق على مستوى آيات الحدود هو العدل لا وسائله المادية والثقافية".  

تستند منهجية جبرون في سائر معالجاته إلى الفكر التاريخي، ومنطق التاريخ، فهو يسعى "إلى توظيف "حقائق" هذا التاريخ في بناء خطاب فكري وسياسي شديد الصلة بهموم العصر وأسئلته؛ لذا فإنه يرى أن عدول المسلمين عن أصول ومبادئ العهد الراشدي في الحكم والسلطة، خاصة في البيعة كان استجابة لمتطلبات التاريخ وشروطه، التي ما عادت تسمح لنموذج "الخلافة الراشدة" بالاستمرار، ما دفع أهل الرأي والفكر من أهل الإسلام إلى التكيف مع إكراهات التاريخ وشروطه؛ لأنه يستحيل تاريخيا بعد الخلافة الراشدة القيام بما كان ممكنا إبانها.

من سلطة الأمة إلى سلطة العصبية إلى الحداثة 

يرى المؤلف "أن فكرة الدولة والسياسة عموما في هذا السياق التاريخي هي تطور موضوعي وضرورة تاريخية اقتضتها الأحوال الجديدة للجماعة الإسلامية في المدينة، وليست مطلبا دينيا يوجد في أصل الدين، وبالتالي ليست ضرورة دينية، وإنما ضرورة تاريخية، وبهذا الاعتبار كانت السياسة في حاجة إلى الدين كحاجة الاقتصاد والنظام الاجتماعي إليه، لتوافق عقيدة الجماعة وتنسجم معها من جهة، وتتخلق من جهة ثانية". 

أما بشأن المعايير التي تتحدد بها إسلامية الدولة، فهي -بحسب المؤلف- ليست تطبيق الشريعة كما هو شائع في الفكر الإسلامي المعاصر، بل تتحدد صفة الإسلامية بمحافظتها على ثلاثة مبادئ وأصول، تكون بها إسلامية، مكتملة الأوصاف والشرعية، ألا وهي (البيعة، العدل، المعروف)، فالبيعة تؤسس لسلطة الأمة وتخويلها الحكم لمن تختاره، والعدل بمعانيه الواسعة، والمعروف بدلالاته المنفتحة على كل خير ومصلحة وعمل منتج. 

ويرى جبرون أن البيعة قد تحققت بأكمل صورها في عهد الراشدين، مع عدم اكتمال العدل والمعروف في مرحلتهم، منتقدا في الوقت نفسه ذلك التصور الذي ينظر إلى "الخلافة الراشدة" باعتبارها تمثل في الفكر السياسي الإسلامي، ولدى جمهور المسلمين، نموذجا سياسيا تاما، اتصف بجميع صفات الكمال السياسي، وعلى جميع المستويات، إلى حد أنه لا تكاد تجد أحدا من المتقدمين والمتأخرين، شكّك في هذه الكمال، أو على الأقل تصدى لبيان حدوده وخصوصياته". 

ووفقا لجبرون فإن "هذا التصور "الكمالي" لدولة الراشدين أدّى -في جميع العصور- إلى إرباك خطوات المسلمين، وتطلعهم إلى "دولة إسلامية حديثة"، واستبد بالعقول والألباب، ومارس عليها إغراء قويا، لا يقاوم إلى درجة أن الخلافة الراشدة أمست مثالا يقع أمامنا، نسعى لتحقيقه، ولا يقع وراءنا، لنستفيد منه، وفي هذا الاتجاه كرست تيارات إسلامية معاصرة كثيرة عملها لاستعادتها وبنائها، باعتبارها أكمل أوجه الدولة تحقيقا لغايات الوجود الإنساني وكمالاته الدينية والدنيوية". 

وتساءل جبرون: "هل يعتبر التصور "الكمالي" لدولة الراشدين تصورا موضوعيا – تاريخيا، تؤيده الوقائع وتطورات الحوادث في العقود الثلاثة التي استغرقتها الخلافة الراشدة، أم أنه تصور لاحق من إنشاء المتأخرين يعكس ميلا واضحا للأسطرة والطوبى؟

وبعد سرده للحوادث والمشكلات التي وقعت في مرحلة الخلافة الراشدة (كحروب الردة وشرعية الخليفة)، خلص المؤلف إلى القول: "ومن ثم يرجع جانب كبير من معاناة دولة الراشدين وتأخر نضجها السياسي والمؤسساتي إلى تغليب القبيلة على الدولة، وغياب السلطة القهرية، ولا أدل على ذلك من النهاية المأساوية لثلاثة من الخلفاء الراشدين الذين قضوا غيلة". 

خلافا للمتعارف عليه في الفكر الإسلامي، سواء القديم منه أو الحديث، من اعتبار تحول نظام الحكم من نموذج الخلافة الراشدة إلى الملك العضوض (سلطة العصبية) انحرافا عن أصول الإسلامية ومبادئها، فإن المؤلف يعدّ ذلك أمرا طبيعيا استجاب لمتطلبات الواقع التاريخي وتكيف مع شروطه، ودافع بشدة عن ذلك التحول؛ لأنه خدم الأمة باجتراح نموذج يضمن لها استمراريتها في الحكم والسلطة والبقاء. 

ويستمر المؤلف في الدفاع عن بيعة يزيد، باعتبارها الصورة المقبولة من أهل "العصبية" الذين سيدافعون عنها كخيار واقعي، رافضا ما قيل في هذا السياق من أنها تمثل "شراهة سياسية ورغبة غير مشروعة في استئثار البيت الأموي بالسلطة دون سائر المسلمين"، مرجعا "تفوق الشاميين العصبي الذي عكسته صلابة عصبيتهم وتماسكها، على الرغم من التحديات والانعطافات الحادة التي مرت بها" إلى ثلاثة عوامل رئيسية: عامل تاريخي وآخر سياسي وثالث عسكري..".  

استمرت "دولة العصبية" طوال التاريخ الإسلامي بعد الخلافة الراشدة إلى مشارف العصر الحديث. وبحسب جبرون، فإن الأمة الإسلامية كانت مرشحة لإبداع نموذجها الحداثوي في نسق مشروع (الدولة- الأمة) بعد استنفاذ نموذج "دولة العصبية" صلاحيته التاريخية، لكن الاحتلال الاستعماري أفسد على الأمة توجهها لإبداع ذلك النموذج مع رواد ومفكري الإصلاحية الإسلامية الذي اشتغلوا على مشروع الدولة التي تعيد السلطة للأمة.

لعل من أخطر خلاصات هذا الكتاب ما صاغه المؤلف بقوله "إن الدولة الإسلامية، وبعد هذه الوقفة المتأنية مع مدلولاتها المختلفة وإشكالاتها، ليست دولة الخلافة بالمعنى الذي يحيل إلى تجربة الراشدين، وليست دولة عصبية (دولة سلطانية) تذكرنا بدول العصبيات والأسر المستبدة، وليست دولة شريعة همها الأساس تطبيق الأحكام الشرعية وحل "الأزمة الجنائية"، بل هي دولة الوقت التي تَعْمُرُ العالم، تشبه جيلها من حيث الشكل والمؤسسات والأساليب، إنها باختصار تطبيق من تطبيقات ممكنة للدولة – الأمة التي تسود العالم من أقصاه إلى أقصاه. 

لكن ما الذي يميز تلك الدولة الإسلامية -بحسب رؤية الكاتب- عن غيرها من النماذج والتطبيقات الأخرى؟ يجيب جبرون "هو أخذها بعين الاعتبار رسالة الإسلام الأخلاقية والإنسانية، الشيء الذي يضفي عليها معنى خاصا؛ إذ تبدو من زاوية هذا الفرق كيانا أخلاقيا خاضعا لقيم معيارية عليا، إنسانية ومثالية، تمنح الدولة الإسلامية تفوقها الرمزي على غيرها من تطبيقات الدولة – الأمة، وتنجيها من بعض الآفات البنيوية التي أصابت أبرز تطبيقات الدولة في الحقبة المعاصرة، كطغيان المال على العمل الذي جسدته الدولة الرأسمالية، أو طغيان العمل على المال الذي جسدته الدولة الاشتراكية، أو طغيان القوة الذي جسدته الدول العسكرية.. ". 
التعليقات (0)