قضايا وآراء

البناء العصي للمغرب الكبير

محمد مالكي
1300x600
1300x600
مرت ذكرى تأسيس "اتحاد المغرب العربي" هذا العام دون اهتمام لافِت للانتباه. ففي  17 فبراير/ شباط 2016 تكون قد مرت سبع وعشرون سنة على تأسيس هذه المنظمة، التي أريد لها أن تكون إطاراً جامعاً للدول المغاربية الخمس: المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، وموريتانيا. ومن عاش الحدث مثلي، وفي المدينة التي وُقعت فيها معاهدة اتحاد المغرب العربي (17 فبراير/ شباط 1989) يستحضر بإكبار شديد الآمال والتطلعات التي عبرت عنها المجتمعات المغاربية وهي تواكب حدثَ التأسيس وتَستبشِرُ به خيراً، في رؤية الفكرة المغاربية فضاءً للعيش المشترك، يضُمُّ أكثر من ثمانين مليون نسمة، لها ما يَجمعُها أكثر مما يُفرقها.

المناسبة شرطٌ كما يُقال، ومناسبة مرور قُرابة ثلاثة عُقود على تأسيس اتحاد المغرب العربي يدعو المغاربيين، دولاً ومجتمعات، إلى التساؤل عما جعل مشروعهم في بناء فضاء سياسي، اقتصادي وثقافي مشترك، عصِيّاً على التحقيق. ولماذا عزّ عليهم، خلافاً لتجمعات إقليمية عديدة في العالم، المحافظة أولا على الفكرة المغاربية أفقاً مستمراً، متجدداً، وقادراً على مراكمة الإنجازات والمكتسبات؟

ولماذا ثانيا يكون نصيبُهم الإخفاق كلما حاولوا أخذَ زمام المبادرة وسارعوا إلى إعادة إحياء بناء فضائهم المشترك؟ لنتذكر من أجل فهم حجم الاستعصاء أن الفكرة المغاربية وظَّفتها الحركاتُ الوطنية باقتدار من أجل مقاومة المستعمِر والانتصار عليه، في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي عند تأسيس "نجم الشمال الإفريقي" (1926 ـ 1927)، أو مع تكوين "جمعية المسلمين لشمال إفريقيا"، أو عند إحداث "مكتب المغرب العربي" و"لجنة تحرير المغرب العربي" في القاهرة ودمشق وبرلين (1946 ـ 1947)، أو لاحقا حينما تمّ تكوين "جيش تحرير المغرب العربي" عام 1955.. 

غير أن الفكرة المغاربية، وهنا يكمن جوهر الاستعصاء، فقدت وظيفتها في لمّ شمل المغاربيين، وتحفيز دولهم بعد الاستقلال على إعادة استثمارها لخلق فائض قوة جماعي، كفيل بتعزيز مسارات البناء الوطني بعد التحرر من الاستعمار، على الرغم من المحاولات المتتالية التي شهدتها المنطقة منذ مؤتمر طنجة عام 1958، الذي جمع قادةَ الحركات الوطنية الثلاث في كل من المغرب والجزائر وتونس، ودفع بهم إلى التوافق على الشكل الفيدرالي لتجسيد الفكرة المغاربية كصيغة للبناء المشترك، مروراً بمرحلة "مؤتمرات وزراء الاقتصاد" ما بين 1964 و1975، ووصولاً إلى إنشاء "اتحاد المغرب العربي" عام
1989.

تقودنا المعطيات أعلاه إلى استنتاج مفاده أن الفكرة المغاربية التي شكلت قوة لتعبئة إيديولوجية النضال الوطني في فترة الاستعمار، عجزت عن التحول إلى وعاء للعيش المشترك بعد الاستقلال. ولعل هذه المفارقة تدفعنا مرة أخرى إلى التساؤل عن الأعطاب المسؤولة عن استعصاء تحقيق المشروع المغاربي.

ساد حتى وقت قريب فهمٌ مفاده أن العطب الأساس لعدم تحقق المشروع المغاربي يكمن في اختلاف أنظمة حكمه، وتباعد توجهاتها السياسية والاقتصادية والدولية. والحقيقة أنه نمط من التفسير أبان عن عدم صحته، وأنه لم يكن سوى ضرب من المبررات لإضعاف إرادة البناء المشترك، بدليل أن نماذج كثيرة من التجمعات الإقليمية نجحت، وراكمت العديد من الإنجازات على الرغم من تبايناتها العميقة..

إن المشكل هنا لا يكمن في الاختلافات، بقدر ما يرتبط بثقافة إدارة الإتلاف وترشيده.. لنتأمل في تجربة البناء الأوروبي المشترك بعد نهاية الحرب العالمية الثانية والتوقيع على اتفاقية روما عام 1958، التي بدأت بمشاريع إستراتيجية محدودة، واستمرت في التوسع لتصبح مع مستهل الألفية الجديدة كياناً يجمع أكثر من سبع وعشرين دولة، ويمثل قوة ديمغرافية واقتصادية ومالية وازنة في العالم.

لذلك، ليس الاختلاف ـ على أهميته في تفسير استعصاء تحقيق البناء المغاربي المشترك ـ هو المسؤول عن توقف المشروع المغاربي ، وإنما الرؤية المُستبطِنة له، والأدوات المُنتقاة للوصول إليه.فقد أبانت تجارب إخفاق المشروع عن أنه لم يتأسس على ما يكفي من الوضوح والنضج والإرادة،

كما أنه بقي حبيس النخب السياسية القائدة، ولم يتحول إلى طلب اجتماعي من قبل المجتمعات المغاربية، ليس لأنه لا يُجيب عن تطلعاتها وآمالها، وإنما لكونها ظلت بعيدة عنه، أي عن المشروع، مُدركةً له بالوجدان، غير متمثلة له بالعقل. ولأن البناء المغاربي المشترك استمر شعاراً للقادة، فقد ارتهن نجاحه وإخفاقه معاً بإرادة القادة وأمزجتهم، وظل بعيداً عن حرص المجتمعات وإصرارها.

والواقع أن التجربة الناجحة لأوروبا تُثبت، بما لا يترك مجالاً للشك، أن سرَّ التقدم في تثبيت التجمعات الإقليمية وتعميق انجازاتها يرتبط بمدى انخراط المجتمعات في دينامياته، وتشابك مصالح بعضها البعض، وتعاظمها.لأن حين يتحقق تشابك المصالح، تتولد إرادة المجتمعات ورغبتها في الدفاع عن البناء المشترك والسعي الحثيث إلى صيانته وحمايته، وهذا ما لم يحصل في المغرب الكبير مع الأسف.

لقد أنجز البنك الدولي منذ سنوات دراسة عن كلفة عدم بناء المغرب الكبير Cout du non Maghreb استخلص من خلالها كيف أن اليلدان المغاربية الخمسة تفقد كل سنة نتيجة تأخرها عن بناء فضائها المشترك اثنين في المائة (2%) من ناتجها الخام الوطني.. وعلينا أن نتصور كم هو مقدار الخسارة الإجمالية لكلفة اللامغرب.
0
التعليقات (0)