قضايا وآراء

رَأبُ الصّدعِ بين المغرب والاتحاد الأوروبي

محمد مالكي
1300x600
1300x600
دخلت العلاقة بين المغرب والاتحاد الأوروبي مدارا موسوما بالبرودة والجفاء منذ صدور الحكم الابتدائي للمحكمة الأوروبية في العاشر من كانون الأول/ديسمبر 2015، والقاضي بإيقاف العمل بالاتفاق الفلاحي المبرم بين الطرفين منذ العام 2012. أما سبب ذلك، فيتعلق بالدعوى المرفوعة من قبل "البوليساريو"، على خلفية أن المنتجات المُصدَّرة من قبل المغرب نحو الأسواق الأوروبية بمقتضى هذا الاتفاق قادمة من أراض متنازع عليها.

ليس غرض هذا المقال مناقشة مدى قانونية رأي المحكمة الأوروبية من عدمه، فالكثير من الأدبيات التي تناولت طبيعة الحكم وحدود شرعيته شددت على الطابع السياسي الذي ميّزه، وإن تم التسويق له بوصفه حكما قضائيا ليس إلا. ما نروم الوقوف عنده هو الانعكاسات المتوقع حصولها في حال استمرار التوتر السائد منذ شهور بين المغرب والاتحاد الأوروبي.

ليتذكر القارئ الكريم أن بين المغرب والاتحاد الأوروبي علاقات تقليدية، بدأت مفاوضاتها منذ إبرام معاهدة روما لعام 1958 المُؤسِّسَة للجماعة الاقتصادية الأوروبية، مرورا باتفاقيات الشراكة لسنة 1969، ووصولا إلى منح المغرب مركز "الوضع المتقدم" (Statut avance) عام 2008، الذي عبره اكتسب صفة الشريك الاستراتيجي، وقد شكل هذا الانتقال في العلاقة بين الطرفين حدثا متفردا على صعيد ضفة جنوب وشرق المتوسط. والواقع أن قوة وصلابة علاقة المغرب بالاتحاد الأوروبي تفندها المعطيات الكمية، وتعززها إحصائيات التبادلات البينية الراسخة منذ عقود. فما يفوق ثلثي صادرات المغرب من المنتجات الفلاحية توجه إلى الأسواق الأوروبية، ويستقبل المغرب، بالموازاة، نسبة عالية من وارداته من البلدان الأوروبية، ناهيك عن العمالة المستقرة في الأقطار الأوروبية منذ عقود، والتي تجاوز عددها الثلاثة ملايين نسمة. 

 نُشير إلى أن الممثلة السامية للاتحاد الأوروبي المكلفة بالسياسة الخارجية "فيديريكا موغريني"، كانت واضحة في تصريحاتها خلال زيارتها للمغرب الجمعة الماضي (4 آذار/مارس 2016) في أن الحكم الابتدائي لمحكمة العدل الأوروبية سيقع استئنافه، وأن الاتفاق الفلاحي بين المغرب والاتحاد الأوروبي يبقى ساري المفعول، وأن العلاقة الإستراتيجية التي تجمع الطرفين لن تهتز، أو يحدث لها ما يمكن أن يعرضها للتوتر والإضعاف، والحقيقة أن التأكيدات نفسها صدرت من الدول الأوروبية الأعضاء الوازنة في الاتحاد، من قبيل فرنسا، وبلجيكا، وإسبانيا.

لنتساءل مع القارئ الكريم عن الاعتبارات الإستراتيجية التي تُفسر حرصَ أوروبا للمحافظة على العلاقة بين المغرب والاتحاد مستمرة، متجددة، وقوية. 

فمن زاوية أولى، ثمة إجماع أوروبي على أن عناصر التوازن والاستقرار والتطور التدريجي السلس والسلمي متوفرة بشكل واضح في النموذج السياسي والتنموي المغربي. ودون شك، يمثل هذا التقدير قيمة مُضافة لرصيد المغرب في مرآة صورته لدى الطرف الأوروبي. ففي الوقت الذي تشهد دول عديدة في جنوب وشرق المتوسط موجات من القلاقل والصراعات، ومظاهر تمزق اجتماعي وديني وسياسي، حافظ المغرب على درجة عالية من التماسك والانسجام بين مختلف مكونات نسيجه الاجتماعي العام.. والحال أن حضور مثل هذا الأمن واستمراره في بلد تفصله بضعة أميال عن الشواطئ الأوروبية، يزيد من اقتناع الاتحاد الأوروبي بأهمية محافظته على الشراكة الإستراتيجية مع المغرب.

ثم من جهة أخرى، أصبح المغرب منذ سنوات رقما أساسيا في معادلة الأمن والأمان في ضفتي المتوسط. فهو عضو في كل شبكات الحوار الأورومتوسطي، وعنصر فاعل في التحالفات الهادفة إلى محاربة الإرهاب، وإضعاف وجوده بأفق القضاء عليه نهائيا في مصادره. بل راكم المغرب خبرات بالغة الأهمية في هذا المضمار، وغدا موضوع ثقة بنجاعة سياساته في مقاومة عمليات الإرهاب التي تداهم ضفتي المتوسط.

ويمكن في الواقع أن نضيف المكانة المتزايدة للمغرب على صعيد العلاقات البينية على الصعيد الأفريقي، وأدواره الفعالة في المساهمة في حل الأزمات الإقليمية. فالمغرب أصبح اليوم جسرا حقيقيا بين أوروبا وأفريقيا، والجسر هنا لا يعني العبور نحو أفريقيا فحسب، بل الاستفادة كذلك من علاقاته الجيدة والمثمرة مع كثير من الدول الأفريقية، لاسيما في منطقة أفريقيا الغربية. ثم إن للمغرب دور بارز في حل بعض الأزمات الإقليمية، كما هو حال القضية الليبية، التي استضافت أرضه كل دورات الحوار الوطني من أجل إعادة بناء ليبيا الجديدة.

ويمكن أن نضيف في رصيد قوته في علاقته بأوروبا والاتحاد الأوروبي، التحولات الاقتصادية الواعدة التي أقدم عليها منذ العشرية الأخيرة من القرن العشرين، والتي بدأت تُعطي أولى ثمارها الإيجابية، والتي ستشكل مع التراكم ضمانة حقيقية لأمن واستقرار الدول الأوروبية المجاورة للمغرب. يكفي أن نُشير إلى المشاريع المهيكِلة الكبرى التي أطلقها المغرب، في مجالات الطاقات المتجددة، والصناعة الفلاحية، وتعزيز البنيات الأساسية في قطاع الاستيراد والتصدير. 

تلك في الواقع بعض مصادر قوة المغرب في علاقته بالاتحاد الأوروبي، التي تجعله شريكا استراتيجيا، وتُقنع الأوروبيين ليس بعدم التفريط فيه فحسب، بل بالعمل على تجنب كل ما من شأنه أن يعكر مناخ التعاون القائم منذ عقود بين الطرفين. ونتوقع، دون تردد، أن قرار محكمة العدل الأوروبية، القاضي بإلغاء الاتفاق الفلاحي الموقع سنة 2012 لن يكون له مفعول يُذكر، بل سيتم إلغاؤه في مرحلة الاستئناف، ويمكننا القول إن إجراءات الإلغاء بدأت مع تصريحات المسؤولين الأوروبيين، وزيارات بعض قادتهم إلى المغرب.  
0
التعليقات (0)