قضايا وآراء

العقد العربي للمجتمع المدني: متطلبات النجاح

محمد مالكي
1300x600
1300x600
هُو وافِد غير نابع من تُربة اللسان العربي ولا من اجتهادات لغوية.. دخل فضاء التداول العربي متأخراً مقارنة مع مجالات حضارية وثقافية مُغايرة، بيد أنه، بالمقابل، وهذا هو وجه المفارقة، انتشر بقدر انتشار النار في الهشيم، حيث عاش كثافةً على صعيد الإعمال والتداول قلَّ نظيرُها منذ ثمانينيات القرن الماضي وصلت حدِّ التُّخمة.. إنه مفهوم أو مصطلح المجتمع المدني، الذي يُقابلُه في الثقافة العربية "المجتمع الأهلي". 

ولأن التأصيل النظري  للمجتمع المدني بدأ في الثقافة الأوروبية والغربية عُموماً منذ القرن التاسع عشر، فقد اكتمل بناؤُه، وتعززت ممارسته، وتوطَّن وجودُه في الثقافة السياسية مبكراً، ليُصبح مفهوماً متوافقاً حول تعريفه، ومعناه، وأبعاده، واستعمالاته. وحيث أنه دخل تداول النظر العربي متأخراً فقد ظل مُفردةً مُلتبسةً، غير متوافق على مضمونها، بل كثيرا ما يحصل الخلطُ بينها وبين ما يشبهُها، أو يقترب من مدلولها. ولا نتردد في الجزم أن الالتباس والخلط وسوء الاستعمال والتوظيف ما زالت من الممارسات التي أضعفت فرص توطين مفهوم المجتمع المدني في الثقافة العربية. 

صحيح أن اجتهادات نظرية ومعرفية رزينة شهدتها الساحة الفكرية العربية خلال العقدين الأخيرين، جهدت في مجملها من أجل تبيئة مفهوم المجتمع المدني، والبحث عن مقوماته المشتركة.. غير أنها، على أهميتها، ما زالت تشكو من كفاءة إخراج المفهوم من عباءة الالتباس والغموض.. تكفينا الإشارة إلى آلاف الجمعيات التي نشأت على امتداد البلاد العربية، والتي وَسِمت نفسها بالتعبير عن المجتمع ومطالبِه وتطلعاتِه، وأنها مستقلة عن الدولة وتأثيرات مؤسساتها، لتكتشف نفسها في المُحِّصلة أن المسافة بينها وبين الاستقلال بذاتها ما زالت كبيرة، وأن حريتَها في صناعة قراراتها ما زالت ضعيفة وبعيدة المنال. 

ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه العِلل التي ميّزت تجربة المجتمع المدني في فضائنا العربي، فقد فرض المفهوم نفسه، وأصبح معترفاً به، بل غدا مطلوباً للإشتغال إلى جانب المجتمع السياسي ومؤسساته، عبر آليات الحوار، والاستشارة ، والاقتراح، أو بالإغراء والاستمالة والتوظيف المُتعمّد.

لذلك تمَّ الاهتمام به، وإن بشكل متباين، من قبل حركة الدّستَرة التي حصلت في سياق الحراك العربي، حيث تضمنته بعض الأحكام الدستورية، وأقرت قواعد لتنظيم مؤسساته. ولأن الاهتمام بالمجتمع المدني أصبح قاسماً مشتركاً بين البلاد العربية، فقد انتبهت الجامعة العربية بدورها إلى مكانة هذا البُعد (المجتمع المدني) في تطوير العمل العربي المشترك، فأدخلته، بالتدريج، ضمن دائرة اهتمام أعضائها ومداولاتهم. 

والواقع أن ميثاقَ الجامعة العربية وإن جاء خُلواً من أية إشارة إلى مصطلح المجتمع المدني، فقد تم الاهتمام به  لاحقا حين لقي، كما أسلفنا، تداولاً مكثفا في العقود الأخيرة. نلمس ذلك من خلال المبادرات التي أقدمت عليها الجامعة منذ المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان المنعقِد في فيينا عام 1993، حيث تزايد الاهتمام بموضوع المجتمع المدني في القمم العربية المنعقدة في كل من الكويت (2009) وشرم الشيخ (2011)، والرياض (2013)، وقبل ذلك تمّ استحداث منصب "المفوض العام للمجتمع المدني" عام 2009، وقد أوكلت ولايته لرئيس الوزراء الأردني الأسبق السيد "طاهر المصري". أما ما جمع  القمم الثلاث فتركيزها على الأدوار الذي يجب أن  تُناط بالمجتمع المدني العربي، بوصفه شريكا للمجتمع السياسي، أي الدولة ومؤسساتها، والمساحة التي يجب أن  يحتلها في مجالات  النهوض بأوضاع المجتمعات العربية. وسننتظر قمة شرم الشيخ في العام 2015، لتتويج جهود الجامعة العربية بإعداد وثيقة "العقد العربي لمنظمات المجتمع المدني"، الذي أعلن عن إطلاقه في القاهرة أواخر شهر فبراير/ شباط المنصرم،  للمرحلة الممتدة من 2016 وحتى 2026.

إنه لشيء لافِت ومهم أن يُصبح المجتمع المدني أولويةً في سجل اهتمامات الجامعة العربية، كما أنه محبذ أن يغدو بُعداً من أبعاد النظام الإقليمي العربي. غير أن لنجاح هذا العقد وتحقيقه المقاصد التي من أجلها تمت صياغته والإعلان عنه، يستوجبان متطلبات لازِمة، بدون يظل العقد المعلن عنه قوقعة فارغة بدون محتوى ولا مضمون. 

فأولى هذه المتطلبات وأهمها أن يعيَ المجتمع المدني العربي ذاتَه، أي يتمثل وجودَه المستقل ككيان وممارسة..سواء في علاقته بالمجتمع السياسي، أي الدولة ومؤسساتها، أو في صلته بكافة الهيئات والتنظيمات الأخرى، وعلى رأسها الأحزاب السياسية. فشرط الاستقلالية، كما يقول الفقهاء، شرط عَين لا شرط كفاية.. وبدونها يفقد المجتمع المدني شرعية وسمِه مجتمعاً مدنياً. لذلك، على منظمات المجتمع المدني العربي أن تعي هذا الشرط، وأن تجهد من أجل تكريسه في الممارسة.. والحقيقة أن أعداداً لا حصر لها من هذه المنظمات إما وُلدت برعاية من الدولة، أو تعيش تحت عباءتها.. وفي الحالتين معاً ينزع هذا الوضع صفة المجتمع المدني عن المنظمات المنضوية تحت لوائه. 

ليس الاستقلالية المطلوبة مقتصرة على علاقة منظمات المجتمع المدني بالدولة ومؤسساتها فحسب، بل تتجاوزها إلى الصلات الممكنة مع الأحزاب السياسية أيضا، التي يجب أن تكون متمايزة وبعيدة عن كل مصادر التوجيه والتأثير. ثم إن الاستقلالية المطلوبة لا تتعلق بضغوطات الداخل، بل ترتبط بهيمنة الخارج كذلك. فكما أن منظمات المجتمع مجلزمة على الحرص على استقلاليتها حُيال مصادر التأثير في الداخل، بالقدر نفسه مطالبة بالابتعاد عن ضغط الخارج، لاسيما عبر التمويل والإغراءات المالية تحت أي مبرر.. ومما لافت للانتباه تغلغل المنظمات الأجنبية في صفوف العديد من هيئات المجتمع المدني العربي.

أما ثاني هذه المتطلبات، فيتعلق بمفهم منظمات المجتمع المدني لعلاقتها بالدولة ومؤسساتها. ففما لوحظ أن كثيرا من منظمات المجتمع المدني تنظر إلى الدولة بوصفها خصماً لا شريكاً، وهو فهم غير سليم ويتناقض مع جوهر المجتمع المدني، الذي وُلد مستقلاً ، لكن مكملا للدولة ومعضداً لها بقوة الاقتراح، والمتابعة، والتقييم، والمشاركة الإيجابية والناجعة. إن العقد العربي للمجتمع المدني في حاجة إلى ثقافة جديدة تقطع مع ما تم مراكمته من أفهام وممارسات خاطئة عن حقيقة المجتمع المدني. 
التعليقات (0)