مقالات مختارة

«الاستثمار» في العبودية

محمد كركوتي
1300x600
1300x600
"عندما لا يكون هناك طغاة، لا يكون هناك عبيد". خوسيه ريزال، ناشط وطني وكاتب فلبيني راحل.

العدد المسجل للعبيد حول العالم يصل إلى 46 مليون بشري، وهو رقم مروع، وسط تشدق هذا العالم بارتفاع زخم "الإنسانية". بلدان العالم أجمعه متورطة في هذه الآفة المشينة. بما فيها الدول المتقدمة التي سنت سلسلة من القوانين المحلية، وأخرجت مجموعة أخرى من القوانين على الساحة الدولية تكافح العبودية في كل مكان.

لا يهم إن حصل الرئيس باراك أوباما على جائزة نوبل للسلام. فهذه الجائزة تسلمها قبله مجرم حرب وإرهابي، هو مناحيم بيجين رئيس وزراء إسرائيل الراحل. فالسلام لا يصل إلى مستويات مقبولة، إذا ما كان هناك ظلم مبين. ولا معنى لكل التشريعات الدولية التي وقعت عليها أغلب بلدان العالم، إذا كان عدد الذين يرزحون تحت العبودية الآن يصل إلى هذا المستوى -دعك من الحالات الفردية لأصحاب النيات الحسنة- فهذه مهما كانت محورية، لا تتعدى أهميتها حملة إعلامية لا تلبث أن تنتهي.

أكثر من 46 مليون حالة عبودية استطاعت مؤسسة "ووك فري- سر حرا" في "مؤشر العبودية الشامل 2016" أن تحصرها. وهذا الرقم ليس حقيقيا بالطبع، لأن هناك مئات الآلاف من الحالات السرية الصامتة لا تلفت الانتباه. فضلا عن أن المؤسسات الدولية الرسمية وغير الرسمية، التي تتمكن من الوصول إلى المناطق الموبوءة بالعبودية، ليس بالضرورة أن تنجح في وضع يدها على الحقائق كاملة. هناك عصابات، مافيات، منظمات، وحتى بعض الحكومات البشعة، حولت العبودية والاتجار بالبشر بكل الأشكال الممكنة، إلى اقتصاد بحد ذاته! اقتصاد يدر مئات الملايين من الدولارات، التي تجد طريقها للوصول إلى قلب البلدان المتقدمة والراشدة، بأساليب متعددة من غسل الأموال. في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، ثبت بالوثائق أن مصارف كبرى ذات أسماء طنانة مررت أموال الاتجار بالبشر ضمن سراديبها لتجعلها نظيفة!

ليس غريبا أن يتقدم أحد الأفراد في مدينة كلندن لشراء عقار بعدة ملايين من الجنيهات الإسترلينية ويدفع ثمنه نقدا، دون الحاجة إلى سؤاله عن مصدرها. هذا يتم حتى اليوم في العاصمة البريطانية، ويجري بالطبع في بلدان أخرى على الساحة الأوروبية. والأمر نفسه في الولايات المتحدة وغيرها. بمعنى أن الأنظمة القاسية التي تجرم العبودية والاتجار بالبشر في هذه البلدان، لا تصل إلى مرحلة التحقق من الأموال الناتجة عن هذه التجارة الدنيئة.

وحتى القوانين التي أقرت في الأعوام الماضية لتضييق الخناق على الأموال القذرة، لم تحقق الأهداف بصورة مرضية حتى اليوم لسد بقية ثغرات عدة في هيكلية حركة الأموال، ما يسمح لحاملي المال "الوسخ" بالتحرك مطمئنين بعد "غسل" جيد لهذا المال.

تقرير "مؤشر العبودية الشامل 2016" الذي صدر أخيرا، يحدد دولا بعينها كبلدان تشهد أكبر النسب على صعيد العبودية. تصدرت الهند بـ18.35 مليون، في حين تبلغ النسبة في كوريا الشمالية المقفولة على العالم 4.37 في المائة. وكوريا، الوحيدة في العالم التي لم تجرم أنواع العبودية المعاصرة. إيران بنظامها الخبيث المخرب، تلقت أعنف هجوم من المؤسسة، لماذا؟ لأن حكومة الملالي المنشغلة بعدوانها الخارجي في عدة بلدان عربية، لا تقوم بما يكفي للوقوف في وجه آفة العبودية المتنامية على أراضيها. والأمر ليس أفضل كثيرا في الصين وهونج كونج رغم الرابط شبه الرسمي (فضلا عن الرابط المعنوي) لهذه الأخيرة مع بلد كبريطانيا التي تعتبر أكثر البلدان محاربة للعبودية والاتجار بالبشر.

لا يمكن التقليل من النتائج التي توصل إليها المؤشر المشار إليه. رغم أن العاملين عليه يعترفون بأنهم لم يصلوا إلى الحقائق كاملة، مع الإشارة إلى أنهم حققوا تقدما ملموسا في عملية جمع المعلومات المستهدفة. المروع في الأمر، أن "المؤشر" جرم 124 دولة على صعيد آفة العبودية من أصل 167 بلدا والنتائج الأخيرة التي توصلوا إليها، استخلصت فقط من 42 ألف مقابلة في 53 لغة لتحديد عدد البشر المستعبدين وكيفية تعامل الحكومات مع هذا الأمر.

والغريب أن 96 بلدا فقط من أصل إجمالي البلدان الخاضعة للمؤشر تبنت خطط عمل لتنسيق الرد الحكومي عليها. وهذا يعني أن ثلث دول العالم تقريبا لم تتفاعل مع أي إجراء بهذا الصدد، ولم تقم بأي خطوة على صعيد الحد من الآفة المشينة للبشرية جمعاء. لا توجد مؤشرات عملية على تحرك دولي فاعل بهذا الخصوص. وباستثناء التأكيدات الرسمية على المبادئ، لا يرقى أي حراك آخر لمستوى المعركة الحقيقية ضد العبودية والاتجار بالبشر، خصوصا مع تفاقم الأوضاع في غير منطقة حول العالم. 

في الأعوام الماضية، ارتفع عدد اللاجئين في العالم إلى أعلى مستوى مسجل بعد الحرب العالمية الثانية. وعلينا أن نتخيل كم يشكل هؤلاء "قطاعا" مثمرا للعصابات والمافيات والحكومات المارقة، "للاستثمار" في عبوديتهم! إنها فرصة جديدة لقهر الإنسان لا تتكرر كثيرا.

الاقتصادية السعودية
0
التعليقات (0)