كتاب عربي 21

لم تكن قرية.. وقد أساء ولم يحسن

السنوسي بسيكري
1300x600
1300x600
هذه الكلمات ليست بدافع التعصب لبنغازي، أو من باب النيل من شخص القذافي، فقد أفضى الرجل لما قدم، ولكنها من باب المساهمة في وضع الأشياء في نصابها، والتنبيه إلى أن الدعوة للمصالحة ينبغي أن يكون مدخلها صحيحا ومقاربتها موضوعية، وأنا هنا أناقش بعض ما جاء على لسان الأستاذ محمد الزوي، أحد أركان النظام السابق، وبالتحديد قوله إن مدينة بنغازي كانت قرية والقذافي طورها.

أقول بنغازي تاريخيا لم تكن حَاضِرة كالحواضر المعروفة عربيا ودوليا، لكن قطعا لم تكن قبل 50 عاما قرية، وجزما لم تصبح بعد مجيء القذافي شيئا مميزا لينسب له الفضل. 

المقارنة البسيطة بين عهدي الملك إدريس السنوسي والعقيد معمر القذافي تكشف أن الأول وضع أسس قوية لبناء حاضرة كان يمكن أن يكون لها شأن.

اكتشف النفط وتم تصديره بكميات اقتصادية في ليبيا أوائل الستينيات، أي أن فرصة التنمية والتعمير الممكنة لم تتعد 7 سنوات أمام الملك فكان أن تم إنفاق 3 أضعاف ما تم رصده في أول ميزانية عرفتها البلاد وهي الميزانية الخمسية 1963-1968، وبالتالي تحققت قفزة مهمة مهدت لما بعدها.

وبتسليط الضوء على أهم القطاعات الخدمية والتي تعتبر أساس التقدم وهي الصحة والتعليم، وبمقياس عمر كلا الحاكمين وما أتيح لهما من مقدرات مالية يتضح أن القذافي لم يقدم لبنغازي الكثير، بل إنه ساهم في حرمانها من فرصة حقيقية لتطور عمراني وإنساني.

على صعيد التعليم كان من أولى إنجازات إدريس في ذلك العمر القصير جدا جامعة لم يكن لها مثيل عربيا في ذلك الوقت من حيث تصميمها وفخامة بنيانها، لتحدث نقلة علمية كان الملك قد وضع أساساتها في خمسينيات القرن الماضي بتأسيس جامعة بنغازي. بينما لم يفعل القذافي خلال الأربعة عقود شيئا مماثلا في مجال التعليم العالي إلا إضافات محدودة برغم اكتظاظ الجامعة وتضاعف عدد الطلاب أكثر من 20 ضعفا، وشهدت الجامعة تدنيا كبيرا على مستوى البنيان بسبب ضعف الصيانة، والمرافق المصاحبة ومن بينها سكن الطلاب تنبأ عن الواقع المزري.

جاء القذافي وفي بنغازي - وتعداد سكانها في ذلك الوقت لم يتعد 200 ألف نسمة - ثلاثة مستشفيات كبيرة هي مستشفى "الجلاء" للحوادث ومستشفى "7 أكتوبر" ومستشفى "الجمهورية". وطيلة 40 عاما، وحتى عام 2009 لم يدخل للخدمة في بنغازي إلا مستشفى واحد هو مستشفى الهواري والذي تم بناؤه بأموال التقاعد (جهاز الضمان الاجتماعي) وليس خزينة الدولة، برغم أن تعداد سكان المدينة تضاعف مرات، بل إن مستشفياتها صارت ملاذ سكان المنطقة الشرقية من أجدابيا وحتى طبرق.

بنغازي في الـ1969م مدينة تتقدم في عمرانها وإنسانها على مدن عربية هي اليوم ذات شأن وصارت قبلة لمئات الآف بل ربما الملايين من طالبي الرزق والمستثمرين والمبدعين والسياح مثل أبوظبي ودبي والدوحة والمنامة، تطورت وتقدمت بمعيار معدلات التنمية البشرية من تعليم وصحة ومستوى دخل فردي ورفاه اقتصادي واجتماعي منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي لتنافس حتى عالميا، بينما تراجعت بنغازي في الفترة نفسها لتكون في ذيل قائمة المدن العربية، وهي الفترة التي تبنى فيها القذافي الاشتراكية فأمم القطاع الخاص ودفع بمعظم القادرين على العمل ليكونوا موظفين في أجهزة الدولة ويعتمدون في أرزاقهم على المرتبات، وهو أحد العوامل تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية اليوم.
 
على صعيد الكيان البشري جاء القذافي وكان لمدرس بنغازي قيمة، ولطبيبها شأن، ولمثقفها وزن، ولكبيرها وجاهة، ولعاملها احترام، ولشبابها وحتى أطفالها أحلام وتطلعات، فضاع شأن الكثير من هؤلاء مع فوضى الشعارات الثورية وثقافة التمرد وعقلية الزحف والعنف والإرهاب النفسي والجسدي وتدني مستوى التعليم والصحة والتنمية البشرية، لترحل هذه الآفات إلى واقعنا اليوم وتكون هي العنوان الأبرز.

القذافي لم يكن معنيا بالعمران المادي والبناء المعنوي، فالجميع يعرف أن حلمه وتفكيره الزعامي لم يكن محليا ولم يقترن بالتنمية والتحديث كما كان هوى زايد بن سلطان مثلا. فقد كان القذافي مهووسا بالزعامة الإقليمة والأممية وكرس طاقته وجزءًا كبيرا من مقدرات البلاد في هذا الاتجاه، وحتى مشروعاته المحلية ارتبطت بفكرة الزعامة على غرار المشروعات القومية الناصرية، مثل مشروع النهر العظيم.

فهل كانت بنغازي فعلا قرية فحولها القذافي إلى حاضرة؟!.. ليته فعل، لكان وفر على أهلها عناء ما يلاقون اليوم.
التعليقات (0)