قضايا وآراء

النخبة المغربية واللاّعقلانية في السياسة

محمد مالكي
1300x600
1300x600
 نقصد ب " النخبة المغربية" في هذا المقام " النخبةَ الحزبيةَ" تحديداً، أما " اللاعقلانية في السياسة"،   فنروم من توظيفها الإشارةَ إلى القواعد والسلوكيات التي تُخضِع " السياسةَ" للعقل وضوابِطه، أي للتفكير المنظم، الواضح، والمتفاعل إيجابياً مع من يختلف أو يتناقض معه. 

يُوحي المشهد السياسي الحزبي، والمغرب تفصله عن الاقتراع النيابي القادم أقل من عشرين يوما )07 أكتوبر/ تشرين الأول 2016( ، بوجود اختلالات في ممارسات الفاعلين الحزبيين ومواقفهم. فمن جهة، ثمة حرب متصاعدة على مواقع " الفضاء الأزرق"، شعارها السعي المتبادل إلى التشهير، والحط من مكانة الحزب للآخر، والتقليل من قيمته السياسية والمعنوية، عبر البحث عن " الملفات الشخصية" لقادته وأعضائه، التي تصل حد التجريح والخدش في " الخصوصيات" والحريات الشخصية، أو عبر التشكيك في صدقية الخطابات والشعارات. بل إن حرب الاستنزاف المتبادلة وصلت ذروتها بالإيحاء بتنظيم تظاهرات مناهضة لبعضهم البعض، كما حصل يوم الأحد 18 سبتمبر/ أيلول 2016، حين رفع بعض المتظاهرين من غير معروفي الهوية في شوارع الدار البيضاء شعارات تدعو إلى " رحيل" رئيس الحكومة " عبد الاله بنكيران"، و تحذر من خطورة " أخونة الدولة والمجتمع".. والحقيقة القائمة طويلة من الوقائع والأحداث التي تنم عن ظاهرة غياب العقلانية في ممارسة السياسة.

تستلزم العقلانية في السياسة إعمال العقل، وتجنب المزاج، والاحتكام إلى المنطق، واستبعاد النزوات، وتغليب الحوار ومقارعة الأفكار بالأفكار، عوض الركون إلى إفساد الذوق السياسي للمواطنين، وتعميق نزعة العزوف عن السياسية لديهم. في السياسة المؤسسة على متطلبات العقل، يتنافس الفاعلون )الأحزاب والتنظيمات السياسية( ، ويختلفون، وقد تصل حدة الاختلاف درجة التعارض والتنافر الحادين، لكن تظل مساحة الاعتراف المتبادل، وقبول الواحد للآخر، والبحث سويا عن المشترك في التوافقات، أولوية لا غنى عنها. لا تسمح " العقلانية السياسية" بسيادة منطق الإلغاء، والادعاء بامتلاك الحقيقة، والاستفراد بصناعة السياسات، كما لا تطيق نظرية " الفارس الوحيد"  theorie du cavalier seul

لما لها من أضرار وسلبيات على الحياة السياسية والمؤسساتية إجمالاً.

من مظاهر ضعف العقلانية السياسية لدى النخبة الحزبية المغربية، علاوة على ما سبق بيانُه، تغليبها الصراعات الشخصية على تنافس البرامج والأفكار والاستراتيجيات، ولطالما عانى المواطنون من هذه الآفة، وعز عليهم التمييز بين حزب وآخر بناء على ما يمتلك من أفكار ورؤى وآليات للتنفيذ..بل كثيرا ما اختلطت عليهم أسماء الأحزاب ورموزها لكثرتها، فكان لها الأثر المضر لحظة الإدلاء بأصواتهم في الاقتراع. ثم إن السياسة المؤسسة على متطلبات العقل لا تشترط وضع حدود بين ما هو موضوعي وذاتي في الممارسة السياسية للفاعلين الحزبيين فحسب، بل تستلزم كذلك عدم تعارض مصالح الحزب مع المصلحة العليا للوطن والبلاد. والواقع أن ما يجري أمام المتابعين للشأن العام في المغرب، يؤكد ضمور مثل هذه القيم في المجال السياسي والحزبي المغربي.. أو في أضعف الأحوال يُستثمر  خطاب " الوطنية" وتستغل تعبئته لخدمة الأغراض الشخصية والمنافع الفئوية.

قد يقول قائل هذه ظواهر موجودة  في  الكثير من التجارب الحزبية، حتى الأكثر قدما في الديمقراطية، وقد لا ينتقص استمرارها  من الأدوار التي يقوم بها الفاعلون الحزبيون. ثم إن السياسة، بحسبها أكثر المجالات تنافرا مع الأخلاق وتعارضا مع قيمها، تحتمل مثل هذه الأعراض، ولا تعتبرها أضراراً . الجواب أن هذا كلام مردود عليه، لأن ممارسة السياسية بهذه الروح  لا تمت بأية صلة للسياسة بالمعنى الذي حددته معاجم علم السياسة، وراكمته التجارب الناجحة في أكثر من قطر من أقطار العالم.

لذلك، ينبهنا ما يجري في المشهد السياسي المغربي عشية  التشريعية لسابع أكتوبر2016، على أن ثمة عطباً لدى النخبة الحزبية في وعي السياسة وممارستها، وأن ضعف إعمال العقل أو انعدام الاحتكام إلى متطلباته من شأنهما الإضرار بالعملية السياسية، وبالنتائج المتوقعة منها، لاسيما من زاوية ترسيخ الإصلاحات التي أقدمها عليها المغرب منذ سنوات، وتحديداً منذ صياغة دستور 2011، وكذلك بالنسبة لرفع قدرات المواطنين وتحفيزهم على التعاطي الإيجابي مع السياسة. 

لا يخفى على المتابع اللبيب للحياة السياسية المغربية أن الدستور المغربي الجديد تضمن طفرات نوعية بالغة الأهمية، وحمل آفاق ممكنة للانعطاف نحو الديمقراطية.. غير أن ذلك كان وما يزال مرتبطاً بمدى استعداد الفاعلين السياسيين ، والحزبيين تحديداً، للارتقاء إلى روح هذه الوثيقة، وتملك الفلسفة التي انطوت عليها. فالدستور وسع  اختصاصات مجمل المؤسسات الدستورية، وكرس الوجود الدستوري لمؤسسات دستورية جديدة ذات العلاقة بحقوق الإنسان، والحكامة، والاتصاف، و وضع مبادئ واضحة للمسؤولية والمحاسبة، والأكثر من كل هذا نص بشكل قطعي في ديباجته على أن " الاختيار الديمقراطي" أحد ثوابت المملكة، التي لا تقبل التغيير أو التراجع.. فالمطلوب من النخبة استثمار هذا التغير النوعي الحاصل في الوثيقة الدستورية، والدفع به بعيدا في ترسيخ الدمقرطة الجارية في البلاد.. وإلا ستُصاب التجربة بالنكوص والرجوع إلى الخلف..لذلك، الخوف كل الخوف من أن يُفضي المناخ السياسي والنفسي المتحكم حاليا في العلاقات البينية للنخبة الحزبية في المغرب عشية الاقتراع التشريعي القادم إلى زرع روح أخرى غير الروح التي واكبت سياق وضع الدستور الجديد لعام 2011.
0
التعليقات (0)