كتاب عربي 21

مناهج تكرس الجهالة الجهلاء

جعفر عباس
1300x600
1300x600
التعليم في تقدير حكوماتنا فرض كفاية، إذا قام به الغرب سقط عنا، وليس من العسف والشطط افتراض أن الحكومات العربية تنتهج نظما تعليمية لا تسمح لعقول الطلاب بالخروج من الصندوق، لأنها تعرف أن العقل المتحرر والمعتاد على تقليب كل أمر من كافة وجوهه، سيجعل صاحبه يتمرد على الراعي، بل ويحمله على محاولة تفكيك الزريبة أو الهرب منها.

وقد بحّت الأصوات وجفت الأحبار من فرط صراخ الناس شاكين من أنظمة تعليمية لا تنجب سوى ببغاوات عقولها في آذانها، فمن يحفظ الدروس عن "ظهر غيب" يعتبر متفوقا: من هو أمير الشعراء؟ أحمد شوقي... صح ممتاز.. من هو طه حسين؟ "مشير" الأدب العربي.. بارك الله فيك، بس طه حسين مات برتبة عميد.. ماذا تعرف عن النابغة الذبياني؟ كان بارعا في صيد الذئاب؟.. غبي.. لا في صيد الذباب.. إلهي ذبابة تنحشر في منخارك وتصل المخيخ وتبيض فيه.

وقس على ذلك: مناخ البحر الأبيض حار جاف صيفا دافئ ممطر شتاء.. ولكن ماذا يا أستاذ عن مناخ البحرين الأسود والأحمر؟ هذه أشياء "خارج المقرر" يا غبي.. نظرية الطفو لأرخميدس هي ظاهرة تحرك الأجسام في السوائل والغازات إلى الأعلى إذا كان محيطها أعلى كثافة منها.. ولكن يا أستاذ كيف نصدق كلام شخص معتوه قليل الحياء، قال ما قال وهو يجري عاريا من حوض الاستحمام.. اسكت يا قليل الأدب. الحكومة التي قالت إن أرخميدس قال ذلك، وما عليك سوى السمع والطاعة.

باختصار، فالتعليم عندنا قوامه الطباشير والسبورة، وعلى الطالب أن يقبل ما يقوله المدرس عن التفاعل الكيميائي بين المواد، فلا مكان في المناهج لتجارب مختبرية، وعليه أن يصدق ان الأرض كروية، رغم أنه يري الأرض تحت أقدامه منبسطة مسطحة، وإذا أثار الطلاب تساؤلات تشكك في كرويتها، لجأ المدرسون الى أسلوب أستاذ حمام (نجيب الريحاني) الذي أعجزه إقناع تلميذته بأن الأرض تلف وتدور فكتب على السبورة "الأرض بتلِف والرزق على الله".

ولأن تشييد المدارس وتزويدها بالكتب والمعلمين يتم بعقلية إبراء الذمة، سمعنا شهادة رجل موجوع بحال شعوبنا (فهمي هويدي)، نقلا عن موجهين تربويين عن معلمة قالت لتلاميذها في المرحلة الابتدائية، إن الأنصار هم النصارى الذين كانوا يقيمون في يثرب، وأن تكرار الآية "ولا أنتم عابدون ما أعبد" في سورة الكافرون نجم عن  خطأ مطبعي، وقد أوردت إفادة الأستاذ هويدي في مقال لي هنا قبل نحو سنة، قلت فيه إنه من فضل الله أن سورة الرحمن لا يتم تدريسها في المرحلة الابتدائية وإلا لشطبت تلك المعلمة نصف آياتها بحذف "فبأي آلاء ربكما تكذبان".

وما أوردته أعلاه نقلا عن هويدي لا يدين المناهج المدرسية فحسب، بل يدين وزارات التربية التي لا معيار لديها لاختيار المعلم، فيكفي أن يكون شخص ما حاصلا على مؤهل أكاديمي أنيق ليفوز بوظيفة معلم، خاصة وأنها مهنة غير جاذبة يقبل بها كثيرون كمحطة مؤقتة في مسيراتهم المهنية، إلى حين يفرجها ربنا ويعثر الواحد منهم على وظيفة "قيمة وسيما".

وإدارات المدارس عندنا تولى أهمية قصوى للشكليات، مثل طابور الصباح و"تجليد" الكتب والدفاتر والزي المدرسي، أما المناهج فشأن حكومي لا يشارك في إعداده إلا المرْضِيِّ عنهم من المعلمين، من فئة "اللي يجوِّز أمي، أقول له يا عمي"، أي أولئك الذين يقولون إن خطب الزعيم المفدى لا تقل قيمة أدبية عن المعلقات، وأن إسحق نيوتن ابن عم وزير التربية بالرضاع.

وهل تلد القطة السوداء سوى هرٍّ أسود، فاجتماع التعيس بخائب الرجاء في مؤسساتنا التعليمية ينتج أجيالا لا رجاء فيها، والجهل لا تنفيه أو تلغيه  "شهادة"، ومدارسنا وجامعاتنا تنتج جهلة يجعلونك تصيح وأنت تراهم وتسمعهم يتخبطون في الكلام عن أبسط الأشياء: يا ويل أمة غدها أسوأ من حاضرها.

للشاعر المصري الصعلوك الرائع الراحل أحمد فؤاد نجم  قصيدة اسمها "الشربة العجيبة"، تناول فيها الكيفية التي يتم بها تضليل المواطن، وينبه فيها إلى خطورة الجهل، بالمعنى الاصطلاحي، وليس القاموسي للكلمة: قال لك ثم الجهل مصيبة/ مولّف ويا العيا تركيبة/ تشرب منها تعطش تاني/ تشرب تعطش تشرب تاني/ تعطش تشرب  خمسة ف ستة/ مية نار لو طالت جتة/ لازم تلحس أسمن حتة/ يعني العقل يا خلق الله.

لله درك يا فاجومي، فقد حذرت في مطلع سبعينات القرن الماضي من خطورة إلغاء العقول وتحويل الشعوب إلى عجول، وها هو الحال قد وصل بنا إلى عصر صار فيه أبو جهل الألفية الثالثة "شيخ المعلمين".
0
التعليقات (0)