قضايا وآراء

التعليم في المغرب.. الإصلاح العصي

محمد مالكي
1300x600
1300x600
 يتكرر باستمرار موضوعُ "إصلاح التعليم" في المغرب، بل يمكن الجزم أن قضية التعليم بمختلف مراحله ظلت سؤالا مطروحا منذ استقلال البلاد، ولم تجد، مع الأسف، طريقها إلى المعالجة الفعالة والناجعة. ومن المفارقة اللافتة أن أغلبية المغاربة يستحضرون باحترام وتقدير كبيرين المدرسة العمومية القديمة، التي أحدثت عقب استقلال البلاد، ويحنون إلى الأدوار التي قامت بها في تكوين مخرجات وبناء طاقات قدمت الكثير في زمن قياسي وبإمكانيات متواضعة.

لابد من الاعتراف موضوعيا أن سؤال إصلاح التعليم ظل ثابتا، متكررا، ومختلفا حول مداخله منذ استقلال المغرب. فعلى مدار أكثر من نصف قرن، ظلت النخبة السياسية المغربية تبحث عن توافقات حول إصلاح حال التعليم وتطوير منظومته، حصل هذا في لقاء المعمورة (1958)، وإيفران (1964و1980)، ثم مناظرة 1994، التي اعتُمِدَت مجمل مقرراتها في صياغة الميثاق الوطني للتربية والتكوين عام 1999.. ومع ذلك لم تُصلَح منظومة التعليم، وظل المغرب بعيدا عن دوائر النهوض التي شهدتها الكثير من مناطق العالم في العقود الأخيرة (ماليزيا، الهند، البرازيل، تركيا).

والمحزن تقهقر المغرب إلى الوراء في المراتب الدولية لواقع التعليم، على الرغم من النسبة العالية من النفقات التي يلتهمها هذا القطاع من الميزانية العامة للبلاد. والخطير أن المغاربة كافة لا يختلفون حول أن تعليمهم ليس بخير، وأن مدرستهم العمومية لم تعد جذابة ولا فعالة، وأن جامعتهم غدت مجالا للعنف "والحروب الإيديولوجية القاتلة، وحتى الأهلية والقبلية".. وأن الكثير من أبنائهم يفقدون بوصلة حياتهم بسبب هذه البيئة غير الحاضِنة لهم.

 اعتَرفَ لي دبلوماسي ياباني قبل أكثر من عقد ونصف، على هامش عشاء معه، بحقيقة أن الكثير من شباب بلده يُقدِمُون على الانتحار، وحين سألته ما السبب في ذلك، كان جوابه: الفشل في الدراسة . وأردف قائلا: بعض شبابنا ينتحرون حتى وإن حصلوا على وظائف ووسائل للعيش، لأن الفشل في الدراسة، في تقديرهم، يُعد فشلا في الحياة برمتها. والحقيقة أن مفتاح النهضة، بل النهضة عينها هي التعليم أولا، والتعليم أخيرا. ومن هنا تتضح الأهمية القصوى للنجاح في معركة التعليم في المغرب.. وكأي معركة نحتاج إلى عُدّة، أي اجتهاد، وتفكير وتخطيط،وتنظيم لأولويات الإصلاح. ونحتاج كذلك إلى توافقات واعية ومسؤولة حول الاختيارات الكبرى، ونحتاج إلى إرادات صادقة وحسنة.. وبعدها نحتاج إلى منفذين للسياسات العمومية ذات العلاقة، موسومين بالاقتدار، والجدية، والمهنية، أي نحتاج إلى قُدوة تعيد للناس ثقتهم في تعليمهم، وثقتهم في قدرات أبنائهم على الانخراط بكفاءة في جدلية التعليم والمعرفة.

 من مصادر استعصاء إصلاح التعليم في المغرب، أن المسألة التعليمية لم تتحول إلى قضية إستراتيجية في تفكير وممارسة النخبة السياسية، بل بالعكس ظلت مسألة "تكتيكية"، أي عنصرا موظفا في لعبة السياسة، يستثمرها الفاعلون في تعزيز مراكزهم، وضغوطاتهم، دون وعي خطورة نتائجها على البلاد والعباد، ومن هنا نفسر كثرة المناظرات حول التعليم، التي غالبا ما تحولت إلى مناسبات لاختبار القوة، وتسويق المزايدات، أكثر من البحث عن المشترك حول قضية القضايا، أي بناء الإنسان المغربي تربويا وتكوينا. ثم أليس هذا الشكل من الوعي، الذي يقوم يتحقير قضية كبرى، من قبيل التعليم، واستثمارها في سوق المزايدة، ينم عن عقلية محافظة، تعوق بدورها نهوض التعليم وتطويره وإصلاحه؟

لذلك، يحتاج تجاوز الاستعصاء والتغلب عليه إلى عقلية جديدة، أي نمط جديد من التفكير والاجتهاد، يفتح المجال لانبثاق نموذج تعليمي موسوم بالعقلانية والحداثة في اختياراته، وطرق تدريسه، ومناهجه، وثقافة تدبيره وتسييره عموما.. وإذا اتفقنا على أن نهضة التعليم والتكوين والتربية والبحث العلمي هي أولا وقبل كل شيء اختيار عقلاني وحداثي، فإن النجاح في تحقيقها مرتبط بمدى قدرتنا على توفير شروط هذا الاختيار ذات الطبيعة الثقافية والسياسية من عدمها.. وإلا سنبقى نراوح مكاننا، وندور في دائرة مفرغة، على الرغم من تبدل الوسائل والأدوات، وأحيانا السياقات.

جدير بالتذكير أن المدرسة العمومية المغربية بُنيت على مجموعة من المبادئ والأسس سُميت وقتئذ "مبادئ المدرسة الوطنية"، وعلى رأسها وفي مقدمتها "مبدأ المجانية"، أي ولوج المدرسة دون رسوم أو قيود مالية، سواء في الأطوار الأولى أو حتى في الجامعة. وقد استفادت شرائح جد واسعة على مدار أكثر من خمسين سنة من هذا المبدأ.. غير أن تفكير الحكومة المغربية الحالية على لسان "المجلس الأعلى للتعليم"، التراجع عن المجانية تحت أية ذريعة سيقوض ما تبقى من مكاسب التعليم العمومي، وسيعمق الفوارق بين الفئات الإجتماعية، مهما كانت المقاصد الرامية إلى خفض كلفة التعليم وتخفيف الضغط على ميزانية الدولة.. ثم إن مبادئ المدرسة الوطنية، ومنها المجانية، ليست "قانونا إلهيا" موسوما بالعصمة والديمومة، بل هي اجتهاد بشري قابل للتغيير بالزيادة أو النقصان، بالحوار، والتوافق، ومراعاة المصلحة العامة.. الخوف كل الخوف أن تُصبح إرادة صناع السياسات العمومية، لاسيما تلك المطبوعة بالسيادية، مغلولة أمام ضغط الخارج، وتحديدا توجيهات المؤسسات المالية، وعلى رأسها "صندوق النقد الدولي".
0
التعليقات (0)