كتاب عربي 21

عن موريتانيا "المغربية": شعب واحد ودولتان!

طارق أوشن
1300x600
1300x600
في الرد على التصريحات الأخيرة للسيد حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال المغربي الموجود إلى الآن خارج الحكومة، وهو يتحدث في اجتماع نقابي داخلي عن الحدود التاريخية للمملكة المغربية، قال حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم في موريتانيا إن بلاده هي الكل والمغرب مجرد جزء.

شيء من التاريخ..

بعد استقلال المغرب طالب حزب الاستقلال، الذي كان يضم مختلف حساسيات الحركة الوطنية وقتها، بضرورة استمرار الكفاح بهدف تحرير المناطق التي كانت لا تزال تحت الحكم الفرنسي والإسباني بما فيها موريتانيا،  وهو المطلب الذي وجد له صدى في خطاب الملك محمد الخامس الذي ألقاه في محاميد الغزلان في 25 فبراير 1958 حيث قال:  إن ما يسعدنا أن يستقبلنا في قرية محاميد الغزلان، التي هي باب الصحراء، من قبائل شنكيطة وأن نسمع إليهم ومعهم فقهاؤهم وأبناؤهم وهم يؤكدون لنا كما أكد آباؤهم لجدنا تعلقهم بالعرش العلوي، واستمساكهم بعروة المغرب التي لا انفصام عنها، وإننا نحيي نفوسهم الأبية وعزائمها القوية ونرحب بهم في وطنهم و بين أهلهم ونؤكد لهم بدورنا، وليبلغ الشاهد الغائب، أننا سنواصل العمل بكل ما في وسعنا لإسترجاع صحرائنا وكلما هو ثابت بحكم التاريخ و رغبة السكان".

وفي العام 1960 شكل المغرب ملفا للمطالبة باسترجاع موريتانيا انطلاقا من امتداد سلطة السلاطين المغاربة الروحية والزمنية حتى نهر السينغال (وهو ما يزال مستمرا حتى اليوم في الزوايا الدينية المنتشرة إلى هناك)، ومساعدة الملك المولى عبد العزيز للقيائل الصحراوية في صد محاولات فرنسا احتلال شنكيط بطلب منها، بالإضافة إلى معاهدات دولية جمعت فرنسا وبريطانيا وألمانيا بخصوص تقسيم الصحراء ومعاهدة الجزيرة الخضراء في 1906 التي نصت على أن حدود المغرب تمتد حتى نهر السينغال. وهي مجموعة اعتبارات ردت عليها نخب موريتانية رافضة للاندماج باعتبارات مناقضة منها أن إعانة المولى عبد العزيز لم تكن تتعدى سبعين بندقية لا غير.

وفي الوقت الذي كان فيه التوجه نحو تكريس الاندماج غير اكتشاف الحديد بالأراضي الموريتانية حسابات فرنسا التي تحولت لإنشاء كيان موريتاني مستقل عن المغرب، وهو ما تم الإعلان عنه رسميا في فبراير 1960 قبل الحصول على العضوية الكاملة في منظمة الأمم المتحدة سنة بعد ذلك، بالرغم من مساندة مجلس الجامعة العربية المنعقد بلبنان في شهر غشت (آب/ أغسطس) 1960 للمطالب المغربية في استكمال وحدته الترابية.

مرت السنوات ووجد المغرب نفسه بفعل تغيرات داخلية وخارجية أمام ضرورة الاعتراف بالجمهورية الإسلامية الموريتانية في العام 1969 وبتوقيع اتفاقية الصداقة وحسن الجوار سنة بعد ذلك كدولتين مستقلتين. الغريب في الأمر أن عددا من الموريتانيين الرافضين لاستقلال موريتانيا انتقلوا للعيش في الضفة الشمالية. والنتيجة أن الداي ولد سيدي بابا الذي صار رئيسا للبرلمان المغربي كان يلتقي شقيقه أحمد ولد سيدي بابا الوزير في الحكومة الموريتانية في لقاءات رسمية بالرباط ونواكشوط في مفارقة تؤكد مقولة الشعب الواحد والدولتين.

عندما تحدث حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم في موريتانيا عن أن بلاده هي الكل وما المغرب إلا جزء، فقد استند في كلامه على تاريخ بعيد يعود للدولة المرابطية التي اختارت مع ذلك مراكش عاصمة لها. أما حميد شباط فلم يثر في كلامه غير ما جاء في الفقرات الأولى من هذا المقال، وهو ما أكد عليه حزبه في رده على وزارة الخارجية المغربية المعتبرة  لتصريحاته "جهلا عميقا بتوجهات الديبلوماسية المغربية" واصطفافا مع "المنطق الذي تبناه أعداء الوحدة الترابية للمملكة الذين يناوؤون عودتها المشروعة لأسرتها المؤسساتية الإفريقية"، واعتبر أن حديث أمينه العام عن انقسام المغرب عن موريتانيا حقيقة تاريخية لا يمكن لأية جهة أن تزيلها.

السياسة الخارجية للمملكة مجال "محفوظ" لملك البلاد يحدد اتجاهاته ويرسم حدود تحرك مختلف الأطراف فيه. ورد حزب الاستقلال على بيان وزارة "سيادية" تدخل في نطاق المجال المحفوظ للملك مؤشر على تطور نوعي في العلاقة بين الأحزاب والمؤسسة الملكية كما كان جسدها تحرك حزب التقدم والاشتراكية وهو يدافع قبل أشهر عن أمينة العام نبيل بنعبدالله في مواجهة بيان من الديوان الملكي.

شباط وبنعبدالله هما الحليفان "الاستراتيجيان" لعبد الإله بنكيران الذي أوكلت إليه مهمة "إطفاء" الحريق الذي يبدو أن تصريحات شباط أشعلته مجددا بعد أن ظن كثيرون أنه تحول نسيا منسيا. لكن الواضح أيضا أن التصريحات تلك كانت فرصة ذهبية لديبلوماسيتا البلدين للتعجيل بتحريك المياه الراكدة في العلاقات بينهما في السنوات الأخيرة التي طبعتها أزمة "صامتة" استمرت مدة طويلة في ظل نوع من "التجاهل" المغربي لجاره الأقرب وهو يعمل جاهدا وبلا كلل في تعزيز علاقاته الإفريقية في كل الاتجاهات. لم تكن موريتانيا على ما يبدو مرتاحة أبدا للتوجه المغربي المتجاهل لها  مقابل البناء على تحالفات جديدة، فسارعت إلى المناوشة في القضية الوطنية الأولى (الصحراء) بإظهار نوع من الانفتاح العلني على جبهة البوليزاريو بل وفتح منطقة الكركرات والمحيط الأطلسي لبعض من جنودها توجوه بصور للذكرى. موريتانيا هددت بشكل غير رسمي قبل أيام بفتح سفارة للجبهة ورفع علم "الجمهورية الصحراوية" خفاقا في قلب نواكشوط بعد ما تردد عن رفعها للعلم الموريتاني بالكويرة قبل شهور.

تصريحات شباط، وإن كانت تتحدث من منطق تاريخي، فقد أزعجت المغرب "الرسمي" وجعلت ملك البلاد يهاتف الرئيس الموريتاني ويوفد رئيس وزرائه المعين إليه بعد أن أصدرت وزارة الخارجية بيانها "العنيف" في مواجهة أمين الاستقلاليين. هنا يطرح السؤال إن ليس من حق حزب سياسي الخروج عن نص الرواية الرسمية في قضية يعتبرها من أدبياته السياسية؟ ولماذا تتدخل الدولة المغربية بكل مؤسساتها للتبرؤ من تصريح حزبي؟ وما حدود الديبلوماسية الحزبية والموازية التي كثر الحديث عنها كلما وصلت أزمة الصحراء المغربية إلى الباب المسدود؟ وأية أهمية للأحزاب إن لم تكن تملك رؤية شاملة للسياسة العامة التي تشكل العلاقات الخارجية عمودا فقريا فيها؟

في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وجد وجه استقلالي آخر اسمه محمد الإدريسي القيطوني، نفسه أمام غضبة ملكية قوية بسبب افتتاحية كتبها بجريدة "لوبينيون"، لسان حال الحزب باللغة الفرنسية، التي كان يديرها وتناولت نفس الموضوع في علاقته مع الحدود الشرقية التي تجمعنا بالجارة الجزائر. لم ينقذ الرجل من "ورطته" غير تدخلات إحدى الزوايا التي استعطفت الملك الحسن الثاني للعفو عن الرجل في وقت اعتبرت فيه الدولة المغربية ما أتى به "إفلاسا"، وهي نفسها العبارات التي صنف بها الحزب الحاكم بموريتانيا ما بدر عن شباط من قراءة تاريخية وجدتها "صفاقة وانحطاطا إلى قاع الإفلاس السياسي وغياب للرؤية الاستراتيجية". صيغة حميد شباط في الحديث كانت عن إيمان حزب الاستقلال بأن حدود المغرب تمتد "من سبتة المحتلة إلى نهر السنغال". لم يتحدث أحد من المعلقين والشامتين والمبادرين بـ"إصلاح" ما أفسده الأخير عن سبتة المحتلة وذهبوا يخطبون ود نواكشوط ومنتجع ازويرات.

على مستوى السياسة الخارجية للمملكة فضح تصريح شباط كثيرا من المغالطات. أما على المستوى الداخلي فالواضح أنه سجل، من حيث لا يدري، هدفا في مرماه ومنح للمطالبين باستبعاده وحزبه من الحكومة القادمة شرطا للتحالف مع بنكيران ورقة هامة يمكنهم البناء عليها لتبرير مطالباتهم التي أجلت إلى اليوم تشكيل حكومة طال انتظارها، فخرج منها صاخبا كما كان يريد أن يدخلها صاخبا. لكن الذي يتناساه الجميع أن عبد الاله بنكيران نفسه كان منذ أيام هدفا لبيان من وزارة الخارجية على إثر تصريحاته عن التدخل الروسي بسوريا لا يختلف في صياغته كثيرا عن بيانها ضد شباط.

السياسة الخارجية المغربية في حاجة، على ما يبدو، إلى إعادة تأسيس تسمح بتوزيع الأدوار واستغلال الفرص المتاحة بعيدا عن احتكار القصر لها..
0
التعليقات (0)