مقالات مختارة

كشف الوجه الرقيق الإنساني للرجل العربي

غادة السمان
1300x600
1300x600
بروين حبيب الشاعرة الشابة قامت قبل نقدها لكتاب رسائل أنسي لي بالحصول عليه وقراءته وهي خطوة لم يعد يقوم بها للأسف حتى بعض الذين يزعمون أنهم (نقادنا)!.. ويكتفون بقراءة ما كتبه سواهم وبالتالي يطرحون أسئلة خاطئة من نمط «لماذا امتنعت غادة عن نشر رسائلها»… إلى آخره. ولو طالعوا الكتاب لوجدوا الجواب.

بروين كانت في بيروت في «صالون الكتاب» توقع كتابها الجديد. ورغم ضيق وقتها وارتباطها بمواعيد خلال ثلاثة أيام قصيرة في بيروت، قامت بالانسلال من هالة الحفاوة بها إلى جناح «دار الطليعة» لشراء نسخة من كتاب «رسائل أنسي الحاج إلى غادة».. وقرأته قبل الكتابة عنه. ربما قامت بأمر هو «أضعف الإيمان»، ولكنني قدرته حقا؛ لأن معظم الذين كتبوا عن الكتاب لم يقوموا بمطالعته وبينهم للأسف من يرتدي «عمامة الناقد». بل ويتساءل بكراهية مسبقة حول عملية مونتاج تعرضت لها الرسائل قبل نشري لها، ولو كلف نفسه عناء قراءة الكتاب الذي ينقده لاكتشف أن الرسائل منشورة في الكتاب بخط يد أنسي الحاج، ومحاكمة النوايا حجة المقصر!

بروين وقراءة «مثقفة فوق العادة»

تقول الشاعرة حبيب بعمق جميل: «يبدو أن الأغلبية، إن لم يكن الجميع، يخجل من قول الحب والتشجيع عليه ويخجل من كشف وجه الرجل الإنساني الرقيق، وكأن قدره أن يرتدي أقنعة القسوة ليحافظ على صحة رجولته». وهذا القول الجميل ينسحب على بعض الكتابات النقدية المعادية لصدور الكتاب ولأدب مراسلات الحب عامة.

وتضيف بروين بكلام حضاري عصري: «أتأسف لأن كل ما قيل في الإعلام المكتوب ووسائل التواصل الاجتماعي بشأن هذه الرسائل لم ينصف الرجل ـ أنسي الحاج ـ كما أنصفته غادة».
فرسائل أنسي لي ترسم مدى عمقه ونضجه وإبداعه، ولكن أدب البوح مكروه وكما تقول بروين: «من ينادون بأفكار ليبرالية لا تزال تقبع داخل جلودهم تركيبتهم القبلية المعقدة».

وتضيف بروين إنني «قلبت الطاولة الذكورية التي ألفناها»، وذلك صحيح وسأتابع ذلك والهجوم الشرس عليّ يؤكد بأنني كما تقول بروين «أحدثت زلزالا قويا على الأرض العربية أدبيا».

من يروي حكاية حب لمناخ «بوليسي»؟

ثمة من طالبني بأن أروي على الأقل حكايتي مع الشهيد غسان كنفاني ومع أنسي.. ولكن من يروي حكايا حبه (لمحاكم التفتيش) الأبجدي؟ ومن يتدفق بحكايا قلبه في مناخات «بوليسية» عدوانية تتخذ من كل سطر نخطه ذريعة لتفسير «لا أدبي» خارج السياق؟ فالافتراء لا يعرف حدودا. ويا أيها (الذكوريون) هونوا عليكم فأنتم بحاجة إلى الحب والحنان كالبشر كلهم بما في ذلك النساء.. وها أنا أقلب الطاولة كما تقول بروين على «العنجهية الذكورية» لدى بعض النقاد، الذين لا يطالعون إلا في دفتر الكراهية المسبقة.

أعود إلى د. فايز رشيد الذي طالبني بود أبجدي محبب بكتابة لمحة عن صلتي بأصحاب الرسائل.. ولكنه سيجد ذلك إذا طالعها، ويضم كل سطر منها صورة عن تلك الصلة.

وكمثال أذكر استاذنا الكبير الدكتور إحسان عباس الذي قرأ رسائل غسان كنفاني لي بإمعان وكتب يقول: «تشهد هذه الرسائل لغادة بأنها كانت حريصة على ألا تحطم البيت العائلي على رأس غسان، كما أنها كانت حريصة على أن تظل العلاقة علاقة حب مؤيد بصلابة المرأة المتمنعة»… ومن يرتدي «عمامة الناقد الأدبي المحترف»، كان سيطالع (كواجب نقدي) ذلك لو كلف نفسه عناء قراءة الكتاب قبل مهاجمتي! وبوسع من يطالع كتب الرسائل قبل الكتابة عنها (كواجب نقدي) الاطلاع عليها. ففي كلمة الإهداء التي سطرتها لرسائل أنسي مفتاح لقراءتها.. ومما جاء فيها أن للشاعر ألف ملهمة وملهمة، وله حبيبة واحدة اسمها الأبجدية.. والحب الذي لا يخونه الشاعر طوال العمر اسمه الشعر!

حماية فصيلة أبجدية منقرضة

ثم إن رسائل الحب بخط اليد فصيلة أبجدية منقرضة بحاجة إلى الحماية! قبل حماية الدببة اللطيفة (الباندا) والسلاحف البحرية والنمور وسواها، وأضيف إلى القائمة «رسائل الحب» بخط اليد.. الجيل الجديد لم يعد يحضر قلما وورقة ليخط مشاعره، وإذا فعل صار يرسلها على الإنترنت وبضغطة إصبع تمحى الكلمات.. وهكذا فإن رسائل الحب المكتوبة على الورق صارت من بعض التاريخ الأدبي العاطفي العربي والعالمي الذي يحلو الحرص عليه.. وقد طالبت قبل عقود بمؤسسة عربية ترعى أوراق الراحلين وتحفظها وتنشرها في الوقت المناسب، لأضع رسائلي كلها في عهدتها وهو طلب يبدو لي الآن هزليا، والموت العربي يجتاحنا كوباء يعري ضعفنا في الحقول كلها.

من طرفي ماذا فعلت؟ عدت إلى الحل الفردي.. إلى حفظ أوراقي (أو ما تبقى منها بعد تشرد وحروب وحرائق) في خزائن البنوك الغربية.

جمالية «رسائل القراء»

ستكون وقفتي في الأسبوع المقبل مع رسائل القراء في هذه الحلبة الساخنة.. واكتشفت عبرها أن بعض كبار الإعلاميين يخطونها دون التوقيع بأسمائهم الحقيقية؛ كالقارئ الذي يوقع باسم «سوري» فهذا الأخ عرفته حين ذكر اسم طبيبة فرنسية كبيرة راحلة عملت في مستشفى باريسي شهير، يؤمه العرب بالذات ورسخت في ذاكرتي إذ قالت لزوجي ولي فجأة بالعربية بعدما ثرثرنا طويلا بالفرنسية: «بلغ السيل الزبا» وانفجرنا ضاحكين. واستجوبتها عمن علمها هذا التعبير وعلمنا أنه الإعلامي الكبير الذي يوقع اليوم باسم (سوري)، يقوم بتدريسها العربية مجانا ـ وهذا عمل نبيل جدا ـ وإلى اللقاء في الأسبوع المقبل مع قراء لديهم وجهات نظر نقدية راقية تضاهي آراء المحترفين.
0
التعليقات (0)