قضى حسني مبارك في شرم الشيخ ما يقرب من شهرين بعد أن أعلن نائبه الراحل عمر سليمان خبر تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، ولم يتم الإعلان عن القبض عليه مع نجليه إلا بعد ضغوط ومظاهرات.
خلال هذه الفترة اشتعل الجدل حول الدستور والانتخابات وتم بالفعل استفتاء مارس 2011. وأعلن الدكتور محمد سليم العوا على لسان أحد أعضاء لجنة التعديلات الدستورية وقتها أن جمال مبارك سأل هذا العضو إن كانوا بالفعل سيعدلون الدستور، فأجابه بالإيجاب. فرد جمال بحدة: وهل سيعدلونه دون الرجوع إلينا؟ بعدها وفي شهر إبريل 2011 كان مبارك يطل بصوته على قناة العربية يستنكر اتهامه هو وأسرته بالفساد المالي والسياسي. كان يظن أنه جزء من الحاضر بعد كل ما جرى في إنكار للزمن وحركة التاريخ.
مبارك الذي واجه رفضا شعبيا واسع النطاق تدرج حتى الوصول لرحيله كان مبتدأ الثورة، ولكنه كان مبتدأ مؤخر يسبقه دائما الحراك الثوري كخبر مقدم. يرحل وتبقى حكومته بقيادة أحمد شفيق. يرحل أحمد شفيق بضغوط الثوار ويبقى مبارك في منتجعه بشرم الشيخ لا يمسه فيه نصب ولا لغوب. تقام المليونات في ميدان التحرير ولم يظهر في ساحة المحاكمة إلا بعد ستة أشهر من تنحيه. عشرات أو مئات الأخبار عن تدهور صحته ووفاته ترافق كل حراك ثوري ثم أخيرا تظهر ما تسمى براءته التامة من كل التهم ليخرج من عاره كيوم ولدته أمه متوجا بحكم أعلى محكمة مصرية.
لو كان قتل الرئيس حلا، لكانت ليبيا التي قتلت حاكمها القذافي أحسن حالا من مصر الآن. أو كانت مصر بعد اغتيال السادات أسعد من كل الدول العربية. ولو كان بقاء الرئيس حلا لنفع هذا سوريا التي رفض حاكمها بشار تركه منصبه على أشلاء مئات الآلاف من شعبه وبلاده تسير على درب الدماء من أزمة لأخرى. وحدها تونس ربما هي الأفضل نسبيا بين دول الثورة بعد أن قرر حاكمها الهروب خارج البلاد. لكن قرار الهروب كان بيد مبارك ولم يكن خيارا ثوريا في 2011 أو بعده. ليس هناك مجال منطقي للقول بأن الثورة ستفعل فعلا مختلفا مع مبارك لو استقبلت من أمرها ما استدبرت.
أراد الثوار أن يكون مبارك وزمانه جزء من الماضي وأبَى هو إلَّا أن يكون مع عصره ماضٍ مستمر بشكل أكثر قتامة. أرادوا محاكمته أن تكون مفتاحا لعدالة انتقالية فكانت استثناء فجا. لم يكن بوسع الثورة أن تفعل مع مبارك أكثر من ذلك لكنه اختار مصيره المجهول بنفسه. كان يمكن للبلاد أن تمضي قدما في مرحلة تحول ديمقراطي طالت أم قصرت وكان يمكن أن يغادر البلاد ويجنبها كل هذه المشاكل. كان يمكن أيضا أن يعترف بجرمه ويعتذر ويستفيد من تخفيف قضائي للعقوبة التي قضى منها بالفعل ست سنوات قيد الاحتجاز، بغض النظر عن ظروف محبسه. أراد ألا يرد أمواله المنهوبة التي اعترفت بها سويسرا والولايات المتحدة ناهيك عن الدول التي لم تعترف بوجود هذه الأموال.
قرر أن يكون طليقا وعشرات الآلاف من الشباب في السجون. وأن يظل ثريا وبلاده تتهاوى اقتصاديا والفقر يضرب أغلب الشعب. وبعد أن هلك عن مبارك سلطانه، لن تغني عنه تلك الأموال. فلن يستطيع العيش بحرية وسط الناس ولن يباهي بالبراءة إلا أمثاله من الفاسدين وهو يعلم أن معظم الشعب يستحقره وليس في عمره متسع لينفق كل هذا. ولن يحتفي العالم ببراءته المزعومة كما احتفل بسقوطه المدوي في فبراير 2011.
سيظل الواقع الاقتصادي والسياسي المؤسف يدين حاكما مليونيرا اسمه مبارك في بلد يرزح تحت خط الفقر اسمه مصر حتى لو براءته مئة محكمة.