كتاب عربي 21

لا توجد ديمقراطية شرقية أو جنوبية

1300x600
نسمع على الدوام، وبانتظام، مسؤولين تنفيذيين عربا، يقولون إن الديمقراطية الغربية لا تناسب مجتمعاتنا، ولكن ما من واحد منهم تكرَّم علينا بوعد بتطبيق ديمقراطية شرقية أو جنوبية، ذلك أنهم في واقع الأمر يعتبرون مجتمعاتنا قاصرة، ولا تملك "الوعي" الذي يجعلها تضع ثقتها عبر صناديق الاقتراع في نفس الحكام الذين تملكوا السلطة عنوة، وبسبب طول البقاء على كراسي الحكم يحسبون أنهم يملكون "حقا إلهيا" في احتكار تلك الكراسي، وهناك على الدوام مفتي السلطان، الذي ينصح الرعية بطاعة وليّ الأمر، وليس بأن يقوِّموا المنكر إذا رأوه باليد أو اللسان أو القلب، ولا يذكِّرون الناس، بأن أعظم الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر.

والحكام الذين يبررون بقاءهم في السلطة، حتى وشعوبهم تتململ وتشكو من الظلم والفقر والجهل والاضطهاد المنهجي، لا يملكون جرأة بنيتو موسوليني ديكتاتور إيطاليا الراحل، الذي كان يقول إن الديمقراطية جميلة كنظرية، ولكنها "كلام فارغ" عند التطبيق، وكان من رأي جون آدمز، ثاني رئيس للولايات المتحدة، أن الديمقراطية غير قابلة للاستدامة، لأنها تصاب بالوهن والإرهاق فتنتحر، ولكن التاريخ الأمريكي يؤكد أن آدمز كان على خطأ.

ومؤخرا ارتفعت أصوات شامتة بالديمقراطية: انظروا ناتج منح الشعب حرية اختيار قيادته السياسية. ها هو الجهول الغرير المغرور دونالد ترامب، يصل إلى رئاسة أقوى دولة في العالم بسبب الديمقراطية.

هذه شماتة في الديمقراطية في موضعها، فالشعوب كثيرا ما تخضع لعقلية القطيع، وتشتري بضاعة أشخاص عاطلين من كل موهبة وقدرة ومعرفة وتجعل منهم حكاما، ولكن أجمل ما في الديمقراطية هو أنها توفر الأدوات لتصحيح أخطائها، ولهذا فاز أبو كرم العربي الأصل بالرئاسة في الإكوادور ذات عام، بعد أن وعد الناخبين بجعل العتبة قزاز والسلم نايلو في نايلو، وبعد أشهر قليلة من توليه السلطة اتضح أنه مجرد مهرج، (كما ترامب)، واضطر الرجل لاستعادة شعبيته لحمل الجيتار، والعزف في الميادين العامة، كوسيلة لـ"الالتحام بالجماهير"، ولكن سرعان ما صوت البرلمان للإطاحة به، بتوافق بين الحزب الذي رشحه للرئاسة، وأحزاب المعارضة.

والديمقراطية التي يعايرها كارهوها بأنها أتت بأبي جهل الأمريكي دونالد ترامب رئيسا، هي نفسها التي جعلت من باراك أوباما، الأسود المولود في هاواي من أب مسلم، رئيسا لنفس البلد التي يتحكم فيها ترامب اليوم، والشاهد هو أن علاج علل الديمقراطية، يكون بزيادة جرعة الديمقراطية، ولهذا ففي حكم المؤكد أن ترامب لن يحكم بلاده لولاية ثانية، بل وربما لن يقترب حزبه (الجمهوري) من السلطة في المستقبل القريب.

وإذا كانت الممارسة الديمقراطية في العالم العربي قد أتت بنتائج مخيبة لآمال الشعوب التي نعمت بها لحين قصير من الدهر، فلأن الديمقراطية لا تزدهر، إلا في مجتمعات نوافذها مفتوحة للفكر والعلم وتنعم بالسلام بمعناه الشامل، فالمجتمع المفتوح يشجع على الحوار، والحوار يقود إلى التنوير، الذي يقود بدوره إلى حلول للمشكلات التي تعوق التقدم والتطور والازدهار وتحقيق الرفاهية العامة.

الديمقراطية تعني أن الشعب شريك في السلطة، وليس مجرد متفرج، وعندما يملك الشعب حق تقاسم/ تغيير السلطة عبر الاختيار الحر، يصبح ممكنا وجود صحافة حرة وقضاء مستقل، ورقابة تمنع استغلال السلطة وتقمع الفاسدين، فالديمقراطية غاية، وليس مجرد وسيلة كما يحدث في بلداننا، حيث يتم إيهامنا بأنه طالما تم منح الناس حق التوجه إلى صناديق الاقتراع، فتلك هي الديمقراطية في أبهى تجلياتها، بينما ما هو مهم في الأمر، ليس الإدلاء بالأصوات بل "عدّ" الأصوات.

وخبراء الانتخابات في الدول العربية، يملكون مهارات استثنائية في العد والاحصاء، ولهذا عرفنا دون أمم الأرض الأخرى، الرؤساء الذين يفوزون المرة تلو الأخرى بأصوات 100% إلا قليلا من الناخبين.

عندما خاض بشار الأسد الانتخابات ضد نفسه رئيسا لسوريا، جاء في النتائج أن جميع الناخبين صوتوا لصالحه، (وكان تصويتا لصالح طالح)، ولكن ما كان أعجب من كل ذلك، أن لجنة "الانتخابات" قالت إن 19,000 سوري فقط لم يدلوا بأصواتهم، مما يعني أنه وعند إجراء الانتخابات/ الاستفتاء، كان عدد من توفوا وأسماؤهم مقيدة في السجل الانتخابي، الذي لم يتم تنقيحه لنحو عشر سنوات، وعدد من كانوا من يعانون من آلام المفاصل أو العمود الفقري أو الإسهال أو الحمى، وعدد النساء اللواتي داهمتهن آلام الولادة إلخ، 19 ألف مواطن فقط.

والتعليم هو حجر الزاوية للممارسة الديمقراطية السليمة، فهو الذي يولد الوعي ويفتح العقول لتعرف كيف تزن وتقرر، وتحكم على الأمور، وبالتالي فالذين يوحون لنا بأنه توجد ديمقراطية جنوب – شرقية، "تحت الطبع"، يحرصون على بقاء الأنظمة التعليمية عندنا قائمة على التلقين الببغاوي، أي حفظ المعلبات ذات الصلاحية المنتهية عن ظهر غيب، ثم تقيوءها على أوراق الامتحانات، والفالح الناجح هو من يعتبر المقررات المدرسية نصوصا قطعية مقدسة، لا تجوز مناقشتها أو معارضتها.

وهناك حملة ترويع للمواطنين العرب، بأن أي محاولة للتغيير ستؤدي إلى سوريا/ ليبيا/ يمن جديدة، بينما واقع الأمر هو أن الانتفاضات والثورات الشعبية في تلك البلدان لم تنته بقيام نظم ديمقراطية، أي أنها ما تزال في طورها الجنيني، وهنا سيصيح أحد معارضي تحريك المياه الراكدة، وتجفيف المستنقعات الآسنة: عندك مصر. انظر ماذا حدث فيها بعد تغيير النظام!

مصر لم تعرف أي قدر من الممارسة الديمقراطية طوال تاريخها، إلا لفترة قصيرة بعد الإطاحة بنظام حسني مبارك، ولكن عسكر مصر، كما عسكر العديد من الدول العربية، يحسبون أنفسهم أوصياء على شعب قاصر "لا يعرف مصلحته"، فاستخدموا الفيتو المسلح لإجهاض تجربة ديمقراطية ولدت ولادة متعسرة، وبالتالي ف"العك" الذي تشهده مصر نتج عن غياب "الديمقراطية".