كتاب عربي 21

الشيخ الراوي .. العسكر ورعب الجنازات

1300x600

حاول أن تعثر في الستين عاما الماضية على جنازة شعبية تطوف شوارع القاهرة!

وإن عجزت، ففتش في دفاتر القرن الماضي بأكمله، فإن أعياك البحث فانطلق إلى ما قبل ذلك بقليل.

ربما (وبخلاف استثناءات قليلة لا يمكن اعتبارها) لن تجد جنازات شعبية تطوف شوارع العاصمة خلال القرنين الماضيين.

البحث في هذا الموضوع على ندرته يبدو للوهلة الأولى طريفا وجديرا ببرامج المسابقات الرمضانية، غير أن الأمر أعقد من هذا.

الجنازة الوحيدة الشعبية التي سمح بها العسكر خلال تاريخهم (ولنتحدث هنا عن العصر العسكري الثاني كما أسميه والذي بدأ منذ انقلاب يوليو 1952) كانت جنازة عبد الناصر.

في جنازة عبد الناصر انهمرت الجماهير إلى الشوارع في تعبير حقيقي عن فجيعتهم، وهي مشاهد يحلو للناصريين وأنصار فكرة (مؤسسات الدولة) الاستشهاد بها للتدليل على شعبية عبد الناصر.

والحقيقة أن من بكوا في تلك الجنازة لو قرأ سطرا واحدا عما فعله عبد الناصر في زنجبار وعن اتصالاته بالكيان الصهيوني ودعمه لمكاريوس في الحرب على مسلمي قبرص، فلربما تحولت تلك الجنازة لبداية للثورة على حكم العسكر.

ما علينا، لست بصدد الرد على الناصريين الآن، ولكن لنتفق على أن العسكر سمحوا بجنازة شعبية لعبد الناصر، بل سعوا إلى تحقيق ذلك.

ولو كنت مخرجا أو متصلا بالعمل الإعلامي للاحظت المشاهد التي أبرزتها الكاميرا في تلك الجنازة.

مواطنة تبكي في لوعة، مزارع يكفكف دموعه، وغيرها من المشاهد التي حرصت الكاميرا على إبرازها.

في المقابل، فتش عن جنازات علماء المسلمين وشهدائهم في مصر خلال القرن الماضي.

يمكنني أن أسرد لك قائمة بإجراءات التضييق التي يمارسها العسكر على جنازات علماء المسلمين أو الشهداء الذين ارتقوا في مواجهات مع نظام العسكر.

وهي اجراءات بلغت ذروة وحشيتها بعد مجزرة رابعة وما تلاها من مجازر، حيث كانت ميليشيات الداخلية تطلق النار والغاز على جنازات الشهداء الذين يرتقون في المظاهرات.

الشهيد حسن البنا، الشهيد سيد قطب، الشيخ كشك، الشيخ عمر عبد الرحمن، الشيخ محمد الراوي، والقائمة تتسع لكثيرين غيرهم.

 كلهم حُرموا من جنازة شعبية والتبرير الظاهر هو خوف العسكر من الجنازات وإظهار شعبية علماء الدين، وهو تفسير صحيح ومقبول إلا أنه ليس كافيا لتفسير ذلك الرعب العسكري من الجنائز.

الحقيقة أن العسكر وإن كان جميعهم ممن لم يحظوا بنصيب من التعليم إلا أن فهمهم لحقيقة دورهم ورؤيتهم للعالم من وجهة نظر الشر الذي يمثلونه تتسق مع بعضها البعض وتنطوي على فهم عميق لحقيقة دورهم كقوة حكم بالوكالة تعادي التوجهات الاسلامية.

العسكر يفهمون دورهم رغم مستواهم التعليمي والعقلي المتواضع، وهم في فهمهم هذا يتفوقون على الكثير من أساتذة العلوم السياسية الذين يغرقون الجمهور في رطانة معقدة عن الاستبداد والفساد وغيره ويفشلون في النفاذ للب حقيقة العسكر ويقدمون بالتالي فهما مشوشا.

العسكر أشرار يدركون أنهم أشرار ويفهمون دورهم جيدا كأشرار، أشرار يلتزمون بكتيب تعليمات الشر إن أردت الدقة.

ربما لم يدرس العسكر إعلاما أو علوما سياسية ليفهموا تأثير مشهد الجنازة الشعبية على الجماهير ولكنهم يدركون هذا بالغريزة، هم مجرد غفر وحراس لمصالح الغرب يعرفون أنهم غفر وحراس لمصالح الغرب.

جنائز علماء الدين بالنسبة لهم هي إيقاظ للمكون الإسلامي الذي يحرصون على ردمه تحت رُكام من التغييب والتشويه.

الجنائز هي الشرارة العاطفية الكافية لإشعال ذلك الفتيل الغافي، المدفون تحت أطنان من التشويه الإعلامي.

العسكر يدركون أن الغرب الذي عينهم ما عينهم إلا لأنهم يحاربون التوجهات الشعبية نحو الإسلام، حتى لو كان الأمر متعلقا بجنازة عالم دين، ولهذا تثير جنائز علماء الدين رعبهم.

فرحمة الله على الشيخ محمد الرواي وعلى كل علماء المسلمين الذين توفاهم الله.