قضايا وآراء

الثورات والسنن الإلهية (1)

1300x600
لا يصح لمن يُعْنَى بأمر التغيير ويُعَانِي مسؤولياته وتبعاته أن يضع رؤيته ومشروعه واستراتيجياته بمنأى عن القوانين العامَّة التي تضبط حركة المجتمعات والأمم والحضارات؛ فمن فعل هذا كان كالمدرب الذي يضع خطة المباراة متجاهلا الخطوط التي تقسم الملعب والقوانين التي تحكم اللعبة، أو كالمهندس الذي يرسم البناء وهو لا يعرف تخطيط المدينة وقوانين العمران فيها، أو كالطبيب الذي يجري عملية جراحية لمريض دون أن يكون ملمَّا بحالته العامَّة ونظامه الصحيّ.

وإنَّ كثيرا من التجارب الثورية والسياسية والجهادية التي استهدفت التغيير فأخفقت؛ يُعزى إخفاقها في الغالب إلى انطلاقها من ردود أفعال آنيَّة دون منهجية تراعي السنن الإلهية وتضعها في الاعتبار، وما من شك في أنَّ موجة الربيع العربي الآنفة انطلقت على حين غفلة من الكبار؛ فكانت كالقطار الذي جرى في الصحراء بلا قضبان ولا علامات، فلم تغن عنه فتوته ولم ينفعه عنفوانه؛ وها هو قابع في عرض الفلاة كأطلال الديار تسفي عليه الريح وتغدو عليه الأيام وتروح.

وليس على الشعوب من عتب حيث ثارت فاندفعت في ثورتها بلا رؤية ولا رَويَّة؛ فهكذا يفعل النبع إذا انفجر بالماء بعد طول احتباس، فإن لم يجد يدا خبيرة تشق له الجداول وتحفر له القنوات اندثر وتبعثر أو حطم ودمر، وهكذا تفعل كل طاقة مكبوتة في هذا الكون؛ وهل نحن إلا بُضعة منه؟!!

إنَّ على الكبار - بما أنهم كبار - أن يقودوا الشعوب وفق رؤية ومشروع يراعي القوانين الإلهية التي وضعها الله تعالى لتضبط حركة الأمم والحضارات، فإن لم يفعلوا ذلك حل الخراب وجثا على الأوطان اليباب، ثم لم يكن من الناس إلا اللعن للثورة والثائرين والندب والنحيب على أيام العافية الزائفة.

ولقد كان الناس قبل الثورة في إبلاس وإفلاس، قد استبد بهم اليأس من زوال الاستبداد؛ فأذعنوا للواقع الجاثم قانعين بأمل ضعيف في تغيير طفيف، يأتي به من سيرث الكرسيّ الذي أنشب قوائمه في حلوق الخلق وعروقهم، وهم في حالهم هذا ما بين غافل عن السنَّة الإلهية العامَّة، وآخر جاهل بطريقة عمل هذه السنَّة، فأمَّا السنَّة العامَّة فهي تلك التي نصَّ عليها القرآن في أكثر من موضع: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران آية 137) {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّة وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم آية 9).

هذه هي السنَّة الإلهية العامَّة، ومن خصائص السنن العامَّة أنَّها لا تتخلف قطّ، وإنَّما هي ثابتة مطَّردة ثبات واطراد نظام الكون وحركة الأفلاك، قال تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} (الأحزاب آية: 62) {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا} (فاطر آية: 43)، فليست هذه النظم المستبدة الظالمة حتمية تتأبَّى على الزوال وتستعصي على الإسقاط حتى نتعايش معها أبدا كما يتعايش الذنب في عجز الثور؛ يهش عنه الهوام ويرضى منه بالأبوال والأرواث، فهذه أحزاب معارضة قنعت بالفتات ورضيت بالقيام بدور إضفاء الشرعية على أنظمة بين الشرعية وبينها كما بين الوردة الحقيقية وصورتها البلاستيكية، وهذه جماعات دعوية تقتات الوعود بنكهة الانتظار، وهؤلاء علماء اختلفوا في كل شيء عدا وجوب السمع والطاعة للحاكم، تغليبا للمصلحة التي لا يعرف لها ضابط ولا معيار؛ ومن ثمَّ بقيت الأمَّة بغير رؤية ولا مشروع، وجاءت الثورة  فانفجرت ثم خمدت بلا طائل حقيقيّ كبركان صار بعد اندلاعه كومة من المقذوفات الأرضية الباردة.

وإذا كنَّا قد غفلنا عن هذه السنَّة الفاعلة فإننا كذلك جهلنا طريقة عملها في المحاربين لهذه الأمَّة، إذ إنَّ ثبات السنَّة لا يعني أنَّها نمطية تأتي في قالب واحد، فقد أخذ الله قومَ نوح بالغرق، وعادا بريح صرصر عاتية، وثمودَ بالصيحة، والمؤتفكاتِ بحاصب من السماء، أمَّا قريشا فقد أخبرهم القرآن بعد استعراضه لمصارع الغابرين في سورة القمر أنَّ أخذهم سيكون بطريقة مختلفة اختلافا جذريا عمَّا مضى، فقال لهم: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [القمر: 43-45]، أي أنَّ أخذهم سيكون بأيدي المؤمنين، وهذا عين ما وقع في بدر؛ فقد تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات التي نزلت من قبل في مكة، تلاها يوم بدر عندما رأى جبريل ينزل من السماء ومعه الملائكة، وعندما تحقق الأخذ للمجرمين على أيدي المؤمنين نزل القرآن ليؤكد القاعدة: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال آية: 52).

فالمؤمنون هم ستار قدرة الله تعالى في أخذه لأعداء هذه الأمَّة، هذه هي سنَّة الله، وهذا هو طابع السنَّة الثابتة فيما يتعلق بالمعارضين للأمَّة الإسلامية، فلو أنَّنا وعينا هذا قبل الثورات وعيا جيدا ثم سعينا في الترتيب والإعداد بما يتسق مع هذا الوعي لاختلف الأمر حتما، وإذا نحن في مستقبل أيامنا وعينا الدرس مما مضى فلسوف يغير الله تبارك وتعالى حالنا من الضعف إلى القوة ومن الهزيمة إلى النصر والتمكين.

وبعد وقوع الانقلابات على ثورات الربيع العربيّ سقطنا في جبّ اليأس مرة ثانية؛ بسبب الغفلة عن سنَّة أخرى من السنن الإلهية  وهي سنَّة التداول: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) وقد وردت هذه السنة في كتاب الله محاطة بجملة عظيمة من الفوائد المرتبطة بهذه السنة: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 140-141]. هذه السنَّة العظيمة تحيي الأمل في نفوس الأجيال؛ فالأيام دول يوم لك ويوم عليك، ودوام الحال من المحال، هكذا قرر القرآن وهكذا شهد التاريخ بصدق ما قرره القرآن.

وعلى التوازي تمضي مع سنة التداول سنة أخرى هي سنة التدافع: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: 251]، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج آية:40]، والتجاوب مع هذه السنَّة ضروريٌّ لتفعيلها؛ حيث إنَّ التدافع إذا وقع على صورة دفع الكافرين بالمؤمنين، ودفع الظالمين بالمناضلين الأحرار فسوف تأتي النتائج على الوجه الذي يحقق التغيير المنشود.

هذه بعض السنن التي نحتاج إلى فهمها والتجاوب معها، ونحتاج كذلك إلى ربط مشاريع التغيير بها، وإلا فنحن نعاند أنفسنا ونهدر الفرص التي تتاح لنا كمنح ربانية، ولا يزال هناك عدد من السنن العامَّة التي لها تأثير كبير؛ لذلك يحتاج مقالنا هذا إلى أن نتبعه بمقال آخر، وسيكون إن شاء الله تعالى.