قضايا وآراء

إشكالات مستعصية في موضوع الإرهاب في أوروبا

1300x600
قد تكون الملاحظة الأبرز بخصوص الهجمات الإرهابية التي استهدفت برشلونة وطرغونة الإسبانيتين، هي انتهاء وضعية الاستثناء التي عاشتها إسبانيا داخل أوروبا منذ تفجيرات مدريد سنة 2004، فمنذ ذلك التاريخ لم تعرف إسبانيا أي تهديد إرهابي، هذا في الوقت الذي تعرضت فيه فرنسا وبلجيكا وألمانيا لأكثر من تهديد إرهابي.

لكن، هذه الملاحظة الدالة لا تشكل تحولا في توجهات الظاهرة الإرهابية في أوربا، ذلك أن هذه الهجمات جاءت مرة أخرى لتعمق ذات الإشكالات المستعصية التي طرحتها الحالة الإرهابية في أوروبا.

التحليل البسيط، يتجه دائما إلى معرفة الجهة التي تبنت الهجمات، وهوية المنفذين، وفي أحسن الأحوال دراسة تحولات الظاهرة الإرهابية، ودلالات الانعطاف في استراتيجية الجماعات الإرهابية نحو هذا البلد الذي عاش محصنا من الهجمات الإرهابية لما يزيد عن عشر سنوات.

لكن البنية العميقة في التحليل تطرح أسئلة أكثر استهدافا تروم بدرجة أولى فهم الظاهرة الإرهابية في أوربا في تحولاتها، ومحاولة التوقف عند مفارقاتها وإشكالاتها المستعصية.

في الموجة الإرهابية الأولى التي استهدفت أوروبا، كانت الأسئلة أقل حرجا، فالهجمات الإرهابية التي نسبت لمجندين من أصول عربية تشربوا أفكارهم الجهادية من الجماعات الجهادية في مصر وغيرها، جعلت الغرب يطرح سؤال الإسلام وإمكان تحديثه، وكانت المقاربة هي الضغط على الدول العربية لإحداث تجديد في الحقل الديني يستهدف بالأساس تأميم وضبط كل القنوات التي تشكل القناعات الدينية للمواطنين.

في الموجة الثانية التي مثلها تنظيم القاعدة، ظلت الأسئلة ذاتها تتكرر، لكن هذه المرة، طرح سؤال جديد يرتبط بالتأطير الديني في الخارج ومسؤولية الدول (الأصل) في التأطير الديني للمساجد والمركز والجمعيات الإسلامية الموجودة بأوربا، كما استمر السؤال السابق المرتبط بتطوير نموذج ديني قادر على تحصين الشباب من الوقوع في دائرة التجنيد لتنظيم القاعدة الذي كان يوسع امتداداته الإقليمية بمنطق فكري أكثر منه تنظيمي.

في الموجة الثالثة التي مثلها تنظيم داعش، وبعد أن تغيرت بنية الظاهرة الإرهابية، بتغير معايير الاستقطاب والتجنيد، إذ أصبح التدين أمرا ثانويا ضمن معايير الاستقطاب، وصار التركيز أكثر على أصحاب السوابق والذين لهم قابلية سلسة للانخراط في شبكات للتهريب، في هذه الموجة تعقد السؤال أكثر، ولم يعد الجواب مرتبطا بتطوير نموذج ديني، ولم تعد الوسطية أو الاعتدال أو التنوير مداخل أساسية لتفكيك الظاهرة الإرهابية.

وزاد الأمر تعقيدا في الموجة الرابعة، التي تشترك مع الثالثة في كل العناصر إلا ما يرتبط بجنسية منفذي الهجمات، إذ صار الاستقطاب يمس في هذه الموجة الرابعة مواطنين أوربيين خضعوا للنموذج التربوي والتعليمي الأوربي، ويحلمون ثقافة أوربية ولا يربطهم بالإسلام والتدين صلة عميقة في الغالب.

في الموجة الرابعة من الإرهاب، والتي مثلتها هجمات باريس وبروكسيل وبرشلونة أيضا بحكم أن منفذ الهجمة ولد في إسبانيا حسب ما رشح من الجهات الأمنية الإسبانية، لم يعد الإسلام محل جدل بقدر ما صار النموذج التربوي والتعليمي والثقافي الأوربي موضوع تساؤل عميق، بحكم أن مخرجاته لم تستطع أن تشكل مادة محصنة للمواطنين الأوربيين الذين صاروا يقعون في دائرة التجنيد من طرف تنظيمات إرهابية.

بعض وسائل الإعلام تحاول أن تبسط أو تسطح النقاش بتصدير الأزمة للدول الأصل التي يتحدر منها منفذو الهجمات، وهذا في الحقيقة يمكن أن يكون صحيحا لو تعلق الأمر بموجات الإرهاب الثلاث التي سبق التذكير بمحدداتها، لكن في الموجة الرابعة، التي يتعلق فيها الأمر بمواطنين أوربيين يحملون جنسية أوربية، وخضعوا للنظام التربوي الأوربي ويحلمون الثقافة الأوربية، فإن وضع الإسلام موضع التساؤل في الغرب ليس في الحقيقة سوى تغليط للنقاش وتحريف له، إذ مهما تكن قوة التأثير الذي يمكن أن يخضع لها هؤلاء من طرف تنظيمات أو جماعات إرهابية، فإن الرصيد التربوي والتعليمي والثقافي الذي حمله هؤلاء من أوربا ينبغي أن تساءل قدرته التحصينية لاسيما وأن هؤلاء يعيشون في وضع سوسيواقتصادي مختلف لا يغذي الظاهرة الإرهابية كما هو الشأن في عدد من البلدان العربية التي تعيش هشاشة اقتصادية واجتماعية حادة.

السؤال الذي ينبغي طرحه هو: ما الذي يدفع مواطنا أوربيا خضع للتعليم الأوربي وتشرب الثقافة الأوربية من الأوعية الغربية التربوية والثقافية والإعلامية، لأن يكون فريسة سهلة للتجنيد الإرهابي؟ ولماذا بالضبط يسقط من هؤلاء المواطنين الأوربيين الذين يتحدرون من أصول شمال إفريقية؟

ليس هناك من تفسير مقنع إلا أن يرتبط الأمر بتوتر له ثلاثة أبعاد مشتبكة:

- الأول يعكسه توتر بين الميل للتدين واستسهال الجريمة، وهو ما يفسر أن عددا من منفذي هذه الهجمات يتأرجحون بين التدين وبين الجريمة وكون عدد منهم لهم سوابق في الجريمة.

- الثاني، يعكسه توتر في الهوية والانتماء، بين هوية الدولة الأصل والهوية الأوربية.

- الثالث، ويعكسه التوتر الذي يشكله من جهة الانتماء الأوربي والشعور في جهة مقابلة بالتمييز وعدم تكافؤ الفرص لكونه يتحدر من أصول غير أوربية.

قد تبدو هذه المستويات الثلاثة من التوتر متباعدة، لكنها في الجوهر تأخذ سيرورات متتابعة في الزمن، فالشعور بالتمييز والإقصاء وضعف الفرص الاقتصادية مقارنة مع الأوربي بسبب (الانتماء للدولة الأصل) يحيي الهوية الأصل حيث تصير مصدرا للاحتماء ثم المواجهة التي تأخذ في المستوى الأول قاعدة دينية في الحجاج، لتتحول بعد ذلك إلى ممارسة إجرامية.

تشتغل التنظيمات الإرهابية من الموجة الرابعة على هذا النوع من المحتملين للفعل التجنيدي، وتركز أولا على المجرمين وأصحاب السوابق، ثم ثانيا الذين يعيشون أعلى درجات الانفصام الهوياتي، ثم بدرجة ثالثة على الذين يعانون من أعلى درجات الإقصاء والتمييز بما في ذلك الكوادر الفنية من الطبقة الوسطى. 

ولذلك، وكما سبق التذكير، فإن الهجمات الإرهابية التي استهدفت إسبانيا أنهت بالفعل الاستثناء الإسباني، لكنها في المقابل عمقت الإشكالات المستعصية التي يتم الالتفاف عليها لتجنب مساءلة النموذج التربوي والثقافي الأوربي وعجزه عن تأمين وظيفة التحصين.