مقالات مختارة

مؤتمرات الأحزاب البريطانية تؤكد تغير المزاج العام

1300x600
ليس مستبعدا أن تؤدي سياسات الجيل الحالي من السياسيين في بعض الدول الغربية إلى تغيرات كبيرة في توجهات شعوبها بعيدا عن النظام الرأسمالي. فمنذ الأزمة المالية قبل حوالي عشرة أعوام المرتبطة بتراجع أداء النظام المصرفي.

بدأ تراجع ذلك النظام وانعكس ذلك في انحدار مستوى المعيشة في عدد من هذه البلدان خصوصا بريطانيا، وتراجع العملات وارتفاع أسعار المعيشة وتداعي ملكية المنازل وتصاعد الديون العامة والخاصة وتوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. ونجم عن ذلك عدد من الأمور: أولها تراجع الثقة الشعبية في النظامين السياسي والمالي في العالم الغربي، ضعف أداء حكومات تلك الدول على المستوى الدولي، وتراجع نفوذها في العالم، وتداعي منظومة القيم والحقوق التي تنامت بعد الحرب العالمية الثانية. وبموازاة ذلك أصبحت «الدولة العميقة» اكثر نفوذا بعد أن حدث تغير في المزاج الشعبي العام بعيدا عما كان يعتبر من ثوابت تلك الشعوب خصوصا نظامها الرأسمالي.

كما تراجعت الحريات بمعدلات كبيرة. وكشفت ظاهرة الإرهاب الدولي عجزا غير مسبوق في الحفاظ على الأمن والسلام الدوليين. في الأسبوع الماضي ذكر استطلاع للرأي العام أجراه معهد «ليغاتم» وهو مؤسسة بحثية يمينية، أن الرأي العام اصبح اكثر ميلا نحو الاشتراكية، بعد أن تعاظم اعتقاده بارتباط النظام الرأسمالي بالفساد الناجم عن الطمع والأنانية. جاء التقرير خلال انعقاد المؤتمر السنوي لحزب العمال وتعمق زعامة السيد جيريمي كوربين الذي كان يعتبر حتى وقت قريب بعيدا عن جوهر المؤسسة البريطانية وانه يحمل سياسات هامشية لا تؤهله لدور سياسي محوري. 

بينما أكد في خطابه المهم للمؤتمر أن حزب العمال الذي يرأسه اصبح «مركز الثقل الحقيقي في السياسة البريطانية». وقال التقرير المذكور أن الناخبين يرغبون أن تقوم الحكومة بإعادة تأميم المؤسسات التي باعتها الدولة للقطاع الخاص مثل سكك الحديد، والسيطرة على الرواتب العليا لموظفي الدولة والقطاع الخاص ووضع تشريعات اكثر لتنظيم الممارسة الاقتصادية. واعتبر ذلك رسالة قوية لحزب المحافظين الذي يعقد مؤتمره السنوي هذا الأسبوع وسط صراعات داخلية حول المفاوضات المتعثرة مع أوروبا بشأن تنظيم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بالإضافة لتراجع شعبية رئيسة الوزراء، تيريزا ماي والتنافس على رئاسة الحزب لاستبدالها.

ثمة ظواهر عديدة طرأت على المجتمع البريطاني في السنوات الأخيرة، وادت إلى هذا التحول الذي يعتبر، فيما لو وجد طريقه للحكم، زلزالا سياسيا كبيرا لم يخطر على بال رموز النظام الرأسمالي المتجذر في أجهزة الحكم. 

من هذه الظواهر تراجع مستوى المعيشة للمواطن البريطاني العادي وهي نتيجة متوقعة من النظام الرأسمالي الذي ينمي ظواهر الطمع والجشع والأنانية ويغلب المصلحة الفردية على المصالح العامة.

 ومن المؤكد أن طريقة تعاطي المؤسسة البريطانية الرسمية مع الأزمة المصرفية في 2008 قد ساهمت في تعميق الشعور بعدم كفاءتها للاستمرار. فحين تزداد طبقة الأثرياء في السنوات العشر الأخيرة بنسبة 50 بالمائة ونسبة الفقراء بأكثر من ذلك، فان ذلك يدفع المتضررين لإعادة النظر في موقفهم من النظام السياسي والاقتصادي الحاكم. 

وحين يتصاعد الدين العام ومعدل التضخم ويصبح متعذرا على الكثيرين من أصحاب الكفاءات من الطبقة الوسطى امتلاك منزل عائلي مناسب، وحين ترتفع الديون الشخصية ليصبح المواطن أسيرا لدى القطاعات المصرفية التي تصدر بطاقات الاقتراض، فان من المؤكد أن يؤدي ذلك إلى ثورة عارمة، قد تبقى صامتة بسبب النظام البوليسي القوي، ولكنها تعبر عن نفسها بمواقف مختلفة عما كان مألوفا. وهكذا يصبح السيد كوربين بأطروحاته المنطلقة من توجهاته الاشتراكية التي لا يخشى كشفها أبدا، متناغما مع المزاج الشعبي العام، الأمر الذي يبدو أن المؤسسة الحاكمة غير قادرة على استيعابه.


 وحين تفشل استطلاعات الرأي العام في التنبؤ باتجاه ذلك المزاج وانعكاساته على صناديق الاقتراع، فيفشل رموز حزب المحافظين (وهو التجسيد السياسي للنظام الرأسمالي) في تمرير مشاريعهم (كما حدث مع رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون في استفتائه على الانتماء للاتحاد الأوروبي) أو جذب الناخبين لمنحهم تفويضا شاملا في الانتخابات البرلمانية (كما حدث مع السيدة تيريزا ماي هذا العام) فإن ذلك مؤشر على تغيرات فكرية ونفسية مجتمعية. 

وبرغم هذا الفشل ما تزال المؤسسة الحاكمة في بريطانيا غير قادرة على استيعاب تغير المزاج العام البريطاني. ويعترف منظرو اليمين أن كوربين اكثر استيعابا لهذا التغير وتناغما معه، الأمر الذي يفتقده حزب المحافظين ورئيسته. ولذلك يستمر الحزب الحاكم في سياساته التي تتميز بالتخبط، سواء حول الشأن المحلي والأوضاع المعيشية أم على صعيد السياسة الخارجية.

وفي خطاب كوربين الأسبوع الماضي أمام المؤتمر السنوي لحزبه في مدينة برايتون الساحلية، كرر تأكيده على ضرورة وقف إمداد السعودية بالسلاح الذي استخدم في الحرب على اليمن وادى لقتل آلاف الأبرياء رجالا ونساء وأطفالا. كما قال انه سيوقف الدعم البريطاني لحكومة البحرين لمنعها من سحق الشعب. هذه التصريحات تأتي في وقت تتكثف الضغوطات فيه على كل من الولايات المتحدة وبريطانيا لوقف مشاركتهما في الحرب على اليمن بتزويد السعودية بالسلاح والمعلومات وأنظمة توجيه الصواريخ والقنابل. مع ذلك ما تزال المؤسسة ترفض هذا التوجه.

هذا التعنت الرسمي البريطاني من بين العوامل المؤثرة على المزاج العام والتوجه الأيديولوجي والسياسي لقطاعات واسعة. فهو تعبير عن سعي المؤسسة الحاكمة لإبقاء السياسة ضمن قوالب ثابتة لا تتغير بتغير الظروف والأوضاع، وعدم مراعاة الذوق العام وتجاهل معاناة الجماهير. ومن المؤكد أن كارثة احتراق احد الأبراج السكنية في وسط العاصمة قبل بضعة شهور ساهم في استنهاض همم الطبقات الفقيرة نحو التغيير. 

وما تزال تبعات تلك الكارثة التي أدت لوفاة ثمانين شخصا تطارد المؤسسة الحاكمة التي لم تستطع التناغم مع الشعور العام، بعكس رئيس حزب العمال الذي تجد فيه قطاعات كبيرة من الطبقات الفقيرة ليس آذانا صاغية فحسب بل تفاعلا إنسانيا مختلفا. والواضح وجود اختلافات جوهرية في سياسات الحزبين الأساسيين اللذين يتنافسان على الحكم. فالمحافظون ما يزالون متشبثين بالعقلية الاستعمارية التي نظمت علاقاتها مع أنظمة الاستبداد في العالم. ويحظى التحالف المشارك في الحرب على اليمن بقيادة السعودية بدعم انكلو- بريطاني متواصل. 

أما التحالف الرباعي الذي استهدف قطر المكون من السعودية ومصر والإمارات والبحرين فانه يشعر بالقوة التي يوفرها الدعم الانكلو ـ أمريكي، وهذا يشجعه على السعي المتواصل لتركيع الأطراف التي يستهدفها. ويتبنى الآن خطة لاستهداف قناة الجزيرة بالضغط على مؤسسة «اوفكوم» البريطانية لغلق مكاتبها في لندن. 

ومن المؤكد أن سياسات المؤسسة البريطانية قد شجعت هذا التحالف على التشبث بسياسات عديدة: أولها استهداف معارضي أنظمته الحاكمة بوحشية غير مسبوقة، وثمة مصاديق كثيرة لذلك في السعودية ومصر والبحرين والإمارات. ثانيها: تسخير المال النفطي الهائل للتأثير على سياسات الغرب. فأمريكا وبريطانيا تتبنيان سياسة مسايرة هذا التحالف وعدم إزعاجه. 

وكشفت رسالة بعثتها السعودية لعدد من الدول الأعضاء بمجلس حقوق الإنسان الأسبوع الماضي أنها سوف تعاقب الدول التي تصر على تشكيل لجنة تحقيق محايدة في جرائم الحرب التي ترتكب في حرب اليمن، بإعادة النظر في العقود الاقتصادية معها. وهذه وثيقة مهمة تكشف مدى تأثير المال النفطي السعودي على السياسة الدولية، وكيف أن بعض دول «العالم الحر» مستعد للمساومة على مبدأ العدالة في مقابل المال. فكان من نتيجة التهديد المذكور في الرسالة السعودية أن عبرت الدول التي كانت متحمسة للجنة التحقيق المحايدة عن استعدادها لـ «حل وسط» مع السعودية، وأصدرت قرارا مخففا بتشكيل لجنة جديدة لتقصي الحقائق في اليمن. 

هذا يعني استعداد العالم لتجاهل الجرائم التي يرتكبها أصحاب المال. ثالثا: أن المبالغة في الترحيب بالقرار السعودي بمنح المرأة حق قيادة السيارة وإظهاره بأنه إنجاز غير مسبوق، يكشف خواء النظام السياسي العالمي وضعفه وتراجعه عن مشاريع ترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان، واكتفاءه بالتصفيق للظواهر السطحية التي لا تمثل تجسيدا حقيقيا لتلك المشاريع.

المخاض الذي تمر به الأجواء السياسية البريطانية يستدعي التوقف لاستشراف مستقبل المشروع الغربي، وما اذا كانت أحلام رواده من «الآباء المؤسسين» قد تكسرت أمام ظاهرة الاستبداد والاحتلال والبلطجة المدعومة بالمال النفطي. لا شك أن ظاهرة كوربين مهمة جدا، ولكنها مهددة بشكل مستمر من المؤسسة التي ترفض إعادة النظر في نظامها الرأسمالي ومنظوماتها السياسية والأخلاقية، أو استعدادها للتصدي للظلم أو دعمها الحقيقي للجماهير المسحوقة سواء في بلدانها أم في بلدان العالم الثالث. اختبار صعب لا يبدو أن التحالف الانكلو ـ أمريكي سيتجاوزه بسهولة.

القدس العربي