كتاب عربي 21

الكيان الصهيوني وخيار الحرب

1300x600
لم يسبق أن تجمعت أسباب لدى القيادة الصهيونية وقيادة الجيش والموساد والشاباك لشنّ حربٍ كما تجمعت في هذه المرحلة.

ولم يسبق لحربٍ شنّها الكيان الصهيوني بعد قيام دولته 1948/ 1949 تجمعت فيها أسباب كالأسباب الراهنة يوم شنّت حرب 1956 أو 1967 أو 1973 أو 1978، أو 1982، أو 2006، أو 2008/ 2009 و2012 و2014. 

فمن يتابع الأسباب التي دفعت الكيان الصهيوني لشن حروبه السابقة، منذ ما بعد قيام الدولة سيجدها أقل أهمية، أو ضرورة، من الأسباب التي تلحُّ عليه اليوم لشنّ حربٍ على حزب الله في جنوبي لبنان وامتداداته، وهو ما ينطبق، قبل ذلك، على شنّ حرب، أو توجيه ضربة حاسمة، ضد استعدادات إيران العسكرية الصاروخية أو تطورها النووي، مثلاً، كما فعل مع القاعدة النووية العراقية. 

الأمر الذي يفرض طرح السؤال: لماذا لم يحدث حتى الآن؟ 

قبل الإجابة، لننظر في الأسباب التي أصبحت على هذه الدرجة من الأهمية والضرورة بالنسبة إلى الكيان الصهيوني وأمريكا. 

أولاً: منذ فشل الحرب التي شنها جيش الكيان الصهيوني على المقاومة ولبنان (وضمناً سورية) في 2006، أصبح من الضروري أن يَشُنّ حرباً جديدة ليسترد هيبته كجيشٍ لا يُقهر. وهي الهيبة التي تمتع بها، ولطالما أسدت له من خدمات وعادت عليه بالمنافع. وذلك منذ حربه الأولى حرب العدوان الثلاثي، ضد مصر عام 1956، وقد وصل جيشه إلى قناة السويس. ثم كُرست هذه الهيبة، بشكل هائل في حرب العدوان في حزيران 1967، واحتلاله للضفة الغربية، والجولان، وقطاع غزة وسيناء، وبنائه خط بارليف على قناة السويس. 

حاول طبعاً أن يسترد بعضاً من تلك الهيبة في حربه العدوانية على قطاع غزة في 2008/2009، ولكنه فشل، لتصاب هيبته بنكسة أخرى. ثم حاول في 2012 أن يرد على الهجوم الذي شنته المقاومة عليه في قطاع غزة إثر اغتياله الغادر للقائد القسّامي أحمد الجعبري. وقد فشل في هذه المرة فشلاً أشدّ من فشله السابق. أما حرب 2014 فقد استعد لها، بصورة أفضل، لتحقيق نصر ميداني على المقاومة في قطاع غزة. ولكنه فشل أيضاً، بما يسمح بالقول أن هيبته تمرغت في الطين في هذه المرة. لأنه انكسر في معركة ميدانية. ولم يُجدِه القصف التدميري المكثف طوال 52 يومياً. 

عندما يصل الوضع مع الجيش الصهيوني إلى أن يصبح عاجزاً عن احتلال قطاع غزة وكسر شوكة المقاومة فيها، أو عندما يصل إلى النتيجة نفسها، وعلى أسوأ، بالنسبة إلى احتلال جنوبي لبنان، وإلى كسر شوكة مقاومة حزب الله فيه، فيجب عليه، بل على الكيان كله، أن يبدأ التفكير في الرحيل. 

وهنا علينا أن نتذكر أن استراتيجية الكيان الصهيوني منذ قيام الدولة كانت بناء جيش عسكري هائل القوّة، متفوقاً على أي جيش عربي، أو إسلامي في المنطقة، وقد راح يتباهى أيام الحرب الباردة بأنه أصبح الجيش الرابع في العالم، ولا سيما بعد امتلاكه أكثر من مائتي رأس نووي، وبعد أن أثبت بأن أيّة عاصمة عربية في متناول جيشه بسرعة الدبابة. ناهيك عن سرعة الطائرة أو الصاروخ. 

هذه الاستراتيجية هي ضمانة بقاء الكيان أولاً، وهي ضمانة السيطرة السياسية ومنع أيّة مقاومة، أو محاولة تسلح مضادة له ثانياً. ولهذا عندما يصبح في وضع لا يستطيع جيشه احتلال قطاع غزة وجنوبي لبنان والوصول إلى بيروت في الأقل، فإن على الكيان كله أن يبدأ بالتفكير في الرحيل، أو أن يبدأ المستقبل يلوّح له بالزوال... 

من هنا تشكّل سبب لم يسبق له أن تشكّل بهذه القوّة والسطوع، ليشنّ حرباً تعيد له تلك الهيبة المعنوية. بل الأهم تعيد له التفوّق العسكري والقدرة على ضرب أو إجهاض أيّة قوّة مضادة أو مهددة لوجوده ومستقبله، أو ماضية في هذا الاتجاه.

ثانياً: ما حدث من تطورات خلال السنتين الماضيتين (طبعاً تتويجاً لتطورات عبر عدة سنوات سابقة) جعلت الكيان الصهيوني أمام خطر هائل إضافي أشدّ من كل ما سبقه من أخطار عليه. وهو ما راح حزب الله يمتلكه من قوّة عسكرية صاروخية تدميرية متعاظمة كل يوم، وهذا باعتراف مخابرات جيش الكيان الصهيوني. وهو ما يعني أن أيّة حرب قادمة مع حزب الله سوف تعرّض مدنه وبناه التحتية، فضلاً عن السكان، إلى دمار واسع لم يسبق له مثيل. علماً أن الكيان الصهيوني في كل الحروب التي خاضها كان ينقلها فوراً خارج الأرض التي اغتصبها وقام عليها كيانه وتجمعاته المدنية والعسكرية. 

هذه المعادلة يجب أن يُضاف إليها ما راحت إيران تمتلكه من قدرات عسكرية تخطت بدرجات ما كان مسموحاً به من تسلح لأيّة دولة عربية، أو لتركيا أو إيران. وكان هذا قراراً استراتيجياً أمريكياً- أوروبياً تقيّد به الاتحاد السوفياتي. وطُبق عملياً على تلك الدول. وهو ما يكشف عنه تاريخ التسلح لكل دولة وتاريخ الضغوط الأمريكية والأوروبية والصهيونية على كل محاولة تسلح ولو كانت دون ذلك بكثير. 

أما بالنسبة إلى إيران التي اخترقت كل الخطوط الحمر، في هذا الموضوع، فإن ما واجهه تطورها النووي وصولاً إلى الاتفاقية النووية يشهدان على ما تعرضت له من ضغوط وتهديدات من قِبَل أمريكا وأوروبا. ناهيك عن الكيان الصهيوني. وهو ما يشهد عليه اليوم ما يُثار من حرب سياسية ضد الصواريخ البالستية الإيرانية فضلاً عن الوجود العسكري لحزب الله ولقوات عسكرية أخرى في سورية، والانهيار السريع لداعش ومعارضي النظام، إلى جانب التطور الموازي في العراق. 

فهذه أسباب أخرى يجب أن تضاف إلى جانب تسلح المقاومة في جنوبي لبنان، كما سبقت الإشارة إليه، تدعو إلى ضرورة شنّ حرب من جانب الجيش الصهيوني للقضاء على هذا التطوّر، أو في الأقل، تجميده. علماً أن "التجميد" فرضية غير ممكنة التطبيق عملياً. 

من هنا أمكن القول أن الأسباب لشنّ حربٍ من قِبَل جيش الكيان الصهيوني هي اليوم أقوى وأشدّ أهمية وضرورة، من أيّة أسباب سابقة لما شنّ من حروب. إنها أسباب تتعلق بالراهن والمستقبل وبالوجود من حيث أتى. 

الأمر الذي يعيدنا إلى السؤال لماذا، مع هذه الأسباب، لم تشنّ الحرب حتى الآن؟ بل هل من الممكن ألاّ تشنّ الحرب في أيّة لحظة مناسبة؟  

ثمة سببان رئيسان يحولان دون شنّها، وإلى جانبهما سبب ثالث يجب أن يؤخذ في الاعتبار، ولو لم يكن بأهمية السببين المشار إليهما. أما السبب الأول بين السببين الرئيسين فهو افتقار الجيش الصهيوني إلى قوات بريّة تستطيع أن تحتل الأرض التي يقف عليها حزب الله، أو في الأقل احتلال الجنوب ومحاصرة الضاحية. وهذا يعني أن شنّ حرب واسعة لن تستطيع تحقيق الانتصار. وذلك ما دامت حرباً من الجو وبالصواريخ فيما بقيت الأرض خارج سيطرتها. وقد أثبتت هذه الحقيقة حرب 2006 ضدّ المقاومة في لبنان والحروب الثلاث ضدّ المقاومة في قطاع غزة. وكانت هذه النقيصة سبباً رئيساً في فشل الجيش الصهيوني في هذه الحروب الأربع، بالرغم من تفوّقه الكاسح بالجو والنيران. ويرجع هذا إلى ما أصاب قواته البرية من ضعف ميداني. ولعل أولى أسبابه ترجع إلى انشغال الجيش الصهيوني طوال أكثر من ربع قرن ضد الانتفاضات، وألوان المقاومة والمواجهات الشعبية في فلسطين. الأمر الذي حوّله إلى ما هو أقرب للقوات الأمنية والشرطة منه للجيش الميداني الحربي. كما ظهرت أسباب أخرى تتعلق بالمعنويات وانغماس أغلب الضباط بالمجتمع الاستهلاكي والأعمال التجارية (البزنس). فلم يعودوا ذلك الجيل المحارب. طبعاً هذا دون التقليل مما وصلته المقاومة من قدرات وتطوّر ميداني.

ولهذا حين ينعدم إمكان الانتصار العسكري لا يبقى للحرب من معنى سوى التدمير وارتكاب جرائم الحرب. وهذا لا قيمة له إذا كان من يقابلهم قادة وكوادر لا يركعون، وشعب يحتمل الخسائر الفادحة ولا يخضع أو يرفع علماً أبيض. 

أما السبب الذي يُبطل حتى البعد التدميري الذي يمتلكه العدو فهو قدرة حزب الله الصاروخية الهائلة باعتراف العدو الصهيوني نفسه. مما يفرض على قيادة الكيان الصهيوني عند التفكير بشنّ الحرب بأن تضع في اعتبارها انتقال نيران الحرب إلى مدنها وبنيتها التحتية لأول مرة في تاريخ حروبها. فقد كانت استراتيجيتها التاريخية نقل المعركة إلى خارج مناطقها وإبقاء جبهتها الداخلية آمنة جداً إلى حد بعيد. 

وهنا يصبح توقع الخسائر في الجبهة الداخلية، بل حتى توقع خطر على الجبهة الداخلية أكثر من وصول الصواريخ بكثافة إليها، عائقاً مهماً في غير مصلحة اتخاذ قرار شن الحرب. 

وإذا سأل أحد عن العامل الثالث الذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار فهو العامل الروسي خصوصاً إذا توسّع الرد على الحرب إلى سورية. فكيف يمكن قبول شنّ حرب على لبنان فيما روسيا في سورية دون أن يكون الأمر يعنيها ودون أن يؤخذ موقفها بعين الاعتبار.

لهذا، ليس هنالك غير ما تقدم من تفسير في الإجابة عن السؤال لماذا لم تشن الحرب حتى الآن بالرغم من الأسباب، عظيمة التأثير، التي تدفع إلى شنها كما مرّ أعلاه. وهو ما يسمح بترجيح عدم وقوعها في الظرف الراهن. ولكن هذا يجب ألاّ يجعل المقاومة في جنوب لبنان كما المقاومة في قطاع غزة بأن تغمضا العين ولو للحظة واحدة عن احتمال وقوع الحرب في أيّة لحظة. فهنالك دائماً  تدخل الحماقة أو تدخل الحسابات الخاطئة من جانب العدو. وهو ما تكرر أربع مرات في الحروب الأربع السابقة التي أثبتت ضرورة إبقاء عامل الحماقة (الأهواء والرغبات غير المحسوبة)، كما عامل الحسابات الخاطئة، إمكاناَ قائماً. ومن ثم إبقاء الأصبع على الزناد.