كتاب عربي 21

محاكم التفتيش الفرنسية 1

1300x600
داخل ساحات القضاء والإعلام، تنصب المشانق وتوزع التهم المعلبة على أمينة، منال وطارق وقبلهم مر بالتجربة ذاتها جورج وروجيه والأب بيير وغيرهم كثير. 

يشترك هؤلاء إما في أسمائهم العربية أو انتمائهم الديني أو انتقادهم الصريح لإسرائيل، ودعمهم للقضية الفلسطينية في بلد له حساسية متطرفة من هذه الأسماء والانتماءات والمواضيع. 

على الساحات ذاتها يستفيد نيكولا وجيرالد وكثير آخرون من معاملة خاصة وتفضيلية. فإن كانوا يشتركون مع بعض منتسبي المجوعة الأولى في التهم  ذاتها، فإنهم مختلفون  عنهم في الاسم والانتماء الديني ومحاباة اللوبي اليهودي الفرنسي القوي. 

معاداة السامية أوالترويج للفكر المتطرف أو تمجيد الإرهاب، تهم جاهزة يتم تفصيلها وإلباسها للمتهمين بسلاسة ويسر. 

ولأننا في زمن حملات #أناـأيضا، فقد صارت تهمتي التحرش والاغتصاب أقصر الطرق للتشهير والقتل المعنوي، ولم لا، الحكم الجزائي بعشرات السنين خلف القضبان.

أهلا بكم في محاكم التفتيش الفرنسية حيث تتم صناعة المذنبين وفق أجندات اللوبي الصهيوني المتحكم في العقول. 

في فيلم (عمر قتلني- 2011) للمخرج رشدي زم، وداخل المحكمة نستمع لمرافعات محاميي عمر الرداد.

جاك فيرجيس: لأن عمر "يقامر" فهو مستعد للقتل ليقامر أكثر.. لأن عمر بستاني فالضحية قتلت بآلة تقليم الأشجار.. لأن عمر هادئ فهذا هدوء السفاحين.. كيفما يفعل عمر فهو المذنب.

محامي آخر: لا يمكن تصديق أن القاتل لم ينه حياة ضحية بإمكانها التبليغ عنه.. وضعية السيدة مارشال ملقاة على الأرض تظهر أن هناك من قام بجرها، ولم تكن وضعية شخص زحف على الأرض.. أداة الجريمة بحدين وبطول عشرين سنتمترا لا وجود لها ولا تشبه في شيء الأدوات التي يستخدمها عمر..

جاك فيرجيس: لا سلاح.. لا دم على ملابس المتهم.. لا دلائل على دخوله القبو أو سرقته أموالا.. لا يتبقى أمامنا غير تلك الكتابة على الباب، وأنا أؤكد أن كاتبها لم يكن السيدة مارشال، بل شخصا غيرها قلد كتابتها، ولا شيء في ملف القضية يدحض كلامي.. لا يمكنكم الحكم على شخص بناء على لا شيء.. الحكم ببراءة عمر معناه الدفاع عن شرف فرنسا.

انتهت قضية البستاني المغربي عمر الرداد المتهم بقتل مشغلته غزلين مارشال، وشغلت الرأي العام الفرنسي في السنوات الأولى من تسعينيات القرن الماضي، على عكس الانتظارات بالحكم على المتهم بالسجن النافذ ثمانية عشر سنة، قضى منها سبعا قبل أن يحصل على عفو رئاسي جزئي من الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك بطلب من الملك الراحل الحسن الثاني.

تعود فصول القضية إلى الخامس والعشرين من شهر حزيران/ يونيو 1991، حيث ألقت قوات الدرك الفرنسي القبض على عمر من بيت أنسابه بتهمة قتل مشغلته اعتمادا على كتابة على باب القبو حيث وجدت الضحية مقتولة تقول: عمر قتلني. 

الفضيحة أن الكتابة حملت خطأ نحويا في اللغة الفرنسية لا يمكن  أن ترتكبه سيدة مجتمع متعلمة كالسيدة مارشال. 

بعدها تراكمت الأخطاء والصدف والتراجعات، ولو تعلق الأمر بخبرات علمية تحدد توقيت الوفاة لتتلائم مع صحيفة الاتهام الرئيسية والعهدة على خطأ في رقن تاريخ الوفاة ارتكبه ثلاثة خبراء محلفين. 

صنعت الآلة القضائية المتهم المثالي في مثل هذه القضايا ولا مجال للتراجع أو البحث عن الجاني الحقيقي. 

يوم النطق بالحكم صرح جاك فيرجيس، الذي نجح بطريقته في تحويل المحاكمة إلى مسرح لمحاكمة الضمير الفرنسي، قائلا: "قبل مئة سنة صدر الحكم على ضابط شاب لأنه كان يهوديا، واليوم حكمنا على بستاني لمجرد أنه مغاربي". الحقيقة أن الحكم صدر على عمر الرداد لأنه مغاربي ومسلم أيضا.

غداة الحكم على الضابط دريفوس، تزعم اميل زولا حملة الدفاع عن المتهم المدان فكتب مقاله الشهير (اني اتهم) وهو ما فعله كثيرون في قضية البستاني عمر حيث فاقت الإصدارات المتعلقة بقضيته العشرين ومعها عشرات الأفلام الوثائقية التحقيقية وفيلم سينمائي أجمعت في أغلبها على الخطأ القضائي الذي وقعت فيه العدالة الفرنسية. 

لم يشفع ذلك كله للاستجابة لطلب إعادة المحاكمة التي ينادي بها الرداد منذ إطلاق سراحه، وهو قرار يمكن أن يعيده للسجن ثانية إن ثبتت عليه التهمة  بالرغم من كثير من الدلائل الجديدة التي تسمح بإعادة فتح تحقيق.

لا مجال هنا للحديث عن علاقة لعمر الرداد بالصهيونية ومعاداة إسرائيل، لكن قضيته مثال صارخ على أن ساحة المحاكم الفرنسية ليست منزهة عن الانسياق وراء أحكام مسبقة، يمكنها أن تؤدي بالأبرياء وراء القضبان.

مناسبة الحديث، ما يتعرض له الأكاديمي المعروف طارق رمضان من متابعة قضائية معتمدة على اتهامات بلا سند، حتى الآن، من سلفية سابقة تحولت مع "توبتها" إلى ناشطة تنويرية تعنى بحقوق النساء، وتفتح لها المجالات الأرحب للتصريح باتهاماتها في مواجهة رمضان مدعومة بمدعية أخرى وربما تتبعهما أخريات. 

ومنذ البدء بدأت تتكشف معطيات عن إهمال أو إخفاء مستندات كان بإمكانها تغيير التوجه العام للقضية وتكييفها على عكس ما يتمناه خصوم وأعداء رمضان وهم كثر تشهد عليهم هزائمهم في مواجهة الرجل في المناظرات وفي استوديوهات القنوات التلفزيونية الفرنسية على الخصوص.

طارق رمضان ليس شخصية عادية كما عمر الرداد. لكن معطيات التسعينيات ليست أيضا مماثلة لواقع العقد الثاني من الألفية الثانية. 

ولأن الفشل لازم كل خطوات اللوبيات المؤثرة في الإعلام والسياسة الفرنسيين في مواجهة التأثير المتنامي للرجل في أوساط الشباب الأوربي المسلم بل تجاوزه للتأثير على مستوى عالمي، كان لزاما البحث عن تهمة تشكل مصيدة تصعب على المعني بها مهمة الدفاع عن نفسه وتبييض صفحته وسمعته أمام الرأي العام. في فرنسا، يحصل القاتل على أحكام مخففة تراعي ظروف الجريمة وحيثياتها. 

أما في جرائم الاغتصاب فلا مجال للحديث عن تخفيف أحكام أو مراعاة لظروف.

ولأن المحاكمة ستتحول لقضية رأي عام لا محالة حبلى بالمفاجآت، كان لزاما تبني خطة مسبقة تعتمد الشحن الإعلامي في غياب الطرف الآخر بشكل يمكن اللوبي المعادي للمسلمين من اكتساح الساحة وتكميم أفواه الأصوات "النشاز" كما كان حال التعامل مع موقع "ميديا بارت" لمجرد إصراره على قرينة البراءة كمبدأ لا محيد عنه.

قرينة البراءة لا تصلح مع رمضان - "النقيض الايديولوجي"، لكنها أساس مبادئ العدالة عندما يتعلق الأمر بنيكولا هيلو، وزير التحول الطاقي بحكومة ماكرون. 

فبعد أيام فقط من قضية طارق رمضان، وجد الوزير الفرنسي نفسه في أتون تحقيق صحفي من مجلة ايبدو المستقلة الجديدة، التي تمتنع عن قبول الإعلانات وتعتمد على القراء رافدا أوحدا لمداخيلها، ملخصه اتهام صريح للوزير بالاغتصاب موجه، ويا للمصادفة، من سيدتين. 

هنا تنادت الطبقة السياسية ووسائل الإعلام في غالبيتها العظمى للدفاع عن الرجل والدعوة للتريث قبل إصدار الأحكام. 

الغريب في الأمر أن حالة نيكولا أكثر تعقيدا من حالة رمضان حيث أن الأول يواجه شكوى مقدمة ضده منذ العام 2008 وتم حفظها. 

أما المشتكية فليست شخصا عاديا بل هي حفيدة الرئيس الأسبق فرانسوا ميتران، واعترف الوزير أنها تعود لأحداث وقعت في العام 1997. وزير آخر في حكومة ماكرون يواجه اليوم نفس الاتهامات من مناضلة داخل حزبه تعهد بالتدخل لفائدتها منذ كان مستشارا بإحدى البلديات في قضية معروضة أمام القضاء مقابل خدمات جنسية تحت الإكراه. 

لم يطلب أحد من وزير الحسابات العامة جيرالد دارمادان الاستقالة بل تلقى الوزير كل الدعم لمواصلة عمله في انتظار إجلاء الحقيقة في موضوع الاتهام.

في فيلم (عمر قتلني)، يزور والد عمر الرداد ابنه في السجن في بدايات اعتقاله.

الوالد: فرنسا استقبلتنا في بلادها.. إنها بلد كبيرة وقضاؤها لا يظلم عنده إنسان بريء..

عمر: ولكن لم أنا هنا يا والدي؟ لم يعاملوني بهذا الشكل؟

داخل الزنزانة، يستمع عمر، الذي لا يعرف القراءة والكتابة، إلى أحد السجناء قارئا ما تنشره الصحافة عن اعترافاته بمخالطة العاهرات بما يجعل من حاجته إلى المال للإنفاق على تلك النسوة سببا وجيها  لعملية سرقة انتهت بالقتل.

لم يفهم عمر لفظ العاهرات بالفرنسية فسأل عنه قبل أن يعلن تبرؤه من هذه "الاعترافات" دون أن يفقد أمله في القضاء الفرنسي.

عمر: هذه أكاذيب.. العدالة الفرنسية لا تنطق إلا حقا.

انتهى الأمر به سجينا ثم طليقا بعفو جزئي يبقيه في وجه العدالة متهما حتى أنه ظل ممنوعا من امتهان حرفته بستانيا واضطر للعمل جزارا بعد خروجه من السجن. القاتل في نظر من حاكموه لا ينفع إلا أن يعمل جزارا.

نيكولا هيلو قال ردا على سؤال من مقدم برنامج استضافه للرد على الاتهامات حتى قبل صدور عدد المجلة التي اتهمته بالتحرش والاغتصاب: أنا لا أخشى الحقيقة. أنا خائف من الإشاعة لأنها سم بطيء وقاتل.

الاتهامات ضد طارق رمضان مجرد إشاعات وقيل وقال حتى اليوم. لكن تهمته الحقيقية أنه مفكر إسلامي حداثي، يفكر ويكتب ويناقش بمرجعية أوروبية يستطيع من خلالها دحض الأحكام المسبقة اتجاه المسلمين وإجلاء الحقيقة عن مدى تجدر اللوبي الصهيوني بالغرب. 

هذا البروفايل لوحده كفيل بأن يحول صاحبه إلى "مذنب مثالي" في محاكم التفتيش الفرنسية الجديدة. فأساس حرب فرنسا العلمانية متعلقة بالرموز..