قضايا وآراء

هل الإعلام عنصر "لا وظيفي" في بناء الجمهورية الثانية بتونس؟

1300x600
في الغرب، تعيش الشعوب حاليا مرحلة يوجد توجّه عام إلى تسميتها بمرحلة "ما بعد الحقيقة" (post-truth). يعرّف معجم أكسفورد البريطاني مصطلح "ما بعد الحقيقة" بأنه يصف "الظروف التي تصبح فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرا في تشكيل الرأي العام من الشحن العاطفي والمعتقدات الشخصية"، وهي ظروف لا تنفصل عن التأثير المتنامي لوسائل الاتصال الحديثة في تشكيل الرأي العام، بل في ضبط مجمل الهندسة الاجتماعية في مختلف المستويات.

ويذهب الكاتب أحمد الشيخ في مقال له على موقع الجزيرة نت، بعنوان "إعلام عصر ما بعد الحقيقة"، إلى أنّ ما بعد الحقيقة تعبر عن ارتداد الغرب "عن قيم الليبرالية والموضوعية والنزاهة والشراكة الإنسانية والانفتاح الكوني، التي طالما تغنى بها كثير من مثقفيه ومفكريه"، كما تتجلى في ارتداد الغرب إلى "القومية الشعبوية في مخاطبة الجماهير"، وهو أمر يجد تعبيرته النموذجية والأشد بؤسا في وصول دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة الأمريكية.

ولكن هل يمكن أن نسقط هذا العامل التفسيري على سياقات مغايرة للسياقات الغربية، وتحديدا هل يمكننا توظيف مفهوم "ما بعد الحقيقة" في السياق التونسي، الذي يعنينا في هذا المقال، وهل من الأفضل أن نتحدث في ظل وضع إعلامي منفلت عن الضوابط المهنية والتطبيقية عن دور هذا الإعلام في التأسيس لثقافة "ما قبل الحقيقة"؛ المحكومة أساسا بمشاعر الكراهية في المستوى النفسي، وبالتزييف في المستوى المعرفي، والمعادية بالجوهر والقصد للجمهورية الثانية؟

لا شك في أنّ تونس (مثل العالم العربي كله) لم تعرف الحداثة، وإن كانت دائما جزءا من دينامياتها، وملعبا لأهم الفاعلين التاريخيين في بنائها و"عَولمتها". فبعيدا عن الادعاءات الذاتية للطبقة الحاكمة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، فإنّ منتهى ما عرفته تونس في المستوى الإعلامي مثلا قبل الثورة لم يصل أبدا إلى مستوى الوفاء بأبسط شروط الموضوعية والنزاهة؛ بحكم هيمنة الدولة الدولة (قبل الثورة)، ثم هيمنة اللوبيات المالية الجهوية الأمنية (بعد الثورة) على مجمل الفضاء الاجتماعي. كما أن تونس لم تعرف ميلاد شروط الحداثة الحقيقية، وإن عرفت محاولات تحديث متعثرة وفوقية وانتقائية قد تكفي الثورة ذاتها للحكم على عمق أزمتها البنيوية.

قد لا نجانب الصواب إن قلنا إنّ الإعلام التونسي كان منذ تأسيس ما سُمّي بـ"الدولة الوطنية"؛ مجرد ملحق وظيفي بآليات الدعاية السياسية والحزبية، بل مجرد آلة للتزييف ولمحاربة الحقيقة. وهو واقع كان من المفترض أن يتغير بعد الثورة بحكم ارتخاء قبضة الدولة، وظهور مراكز نفوذ (وسلطات تعديلية) جديدة تقوم شرعيتها على دعوى تحرير الإعلام من هيمنة الدولة ومن"المال الفاسد"؛ لضمان موضوعيته ونزاهته. ولكنّ المراقب للشأن الإعلامي التونسي يعرف جيدا أنّ الهوة كبيرة بين الدعوى والمحصول.

فمنذ المرحلة التأسيسية التي أعقبت الثورة، تعالت أصوات كثيرة مطالبة بعدم تدخل الدولة، وضرورة الإيمان بقدرة القطاع الإعلامي على التعديل/ التصحيح الذاتي بعيدا عن "القوائم السوداء" والقوانين الزجرية. ولكنّ الواقع يثبت أنّ الإعلام كان دائما جزءا من الأزمة، لا "حكما" فيها أو عاملا من عوامل تجاوزها. فأغلب المنابر الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة (والكثير من المواقع الالكترونية) ما زالت مرتبطة في خطوطها التحريرية، بل في رساميلها البشرية والمالية بأطراف لا تخفي علاقاتها بنظام المخلوع من جهة أولى، ولا تخفي من جهة ثانية عداءها للإسلام السياسي، خاصة حركة النهضة.

مبدئيا، من حق أي طرف تصريف مشاعره ضد خصومه الأيديولوجيين أو السياسيين كما شاء، لكنّ ذلك التصريف لا يمكن أن يُترك بلا ضوابط قانونية. فحرية الإعلام وقداسة الخبر تفترضان تقديسا للحقيقة قبل كل شيء. ولا شك في أنّ من وظائف القانون أن يضمن الوفاء بالشروط الدنيا للحقيقة؛ ليضمن بقاء اللعبة السياسية بعيدا عن العنف المادي أو الرمزي. وليس من شرط هذا التنظيم للقطاع الإعلامي أن يتضمن عقوبات سالبة للحرية، ولكنه يجب أن يتضمن بالضرورة عقوبات مالية موجعة حتى يتجنب "المزيّفون" طريق الكذب والتشويه بحكم كلفته الباهضة.

لا شك في أنّ موقف النخبة "الحداثية" من قرار حركة النهضة بالتتبع القضائي لكل من يستهدفها بالكذب والتشويه؛ هو مظهر مهم من مظاهر الأزمة القيمية في المرحلة الانتقالية. فأغلب النخب التي استنكرت هذا القرار بدعوى التضييق على الحريات؛ هي نفسها التي لم يتورع رموزها عن الالتجاء إلى القضاء (كما فعل حمة الهمامي الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية، أو الباجي قائد السبسي رئيس الدولة)، أو عن التهديد بالالتجاء إليه (كما يفعل محسن مرزوق زعيم "مشروع تونس" وغيره). كما أن هذه النخبة التي تدافع عن الأساطير المؤسسة "للنمط المجتمعي التونسي" (وهي مجرد نسخة مشوهة من النظام الفرنسي المؤسس حول "قيم الجمهورية" اللائكية المأزومة)، لم تتورع حتى بالتهديد بالالتجاء إلى القضاء الدولي إذا لم يؤكد القضاء التونسي اتهاماتها لحركة النهضة بالتورط في اغتيال المرحومين شكري بلعيد ومحمد براهمي. وقد يكون من باب لغو الحديث التنصيص على البنية الانفصامية وعلى اللامبدئية التي تحكم هذه المواقف.

إنّ رفض مبدأ الاحتكام إلى القانون هو ضرب لأسس التعايش السلمي، وهو قبل ذلك ضرب لأي اشتغال طبيعي للحقل السياسي. ففضلا عن التشكيك الضمني في الجهاز القضائي، فإن استنكار التجاء حركة النهضة إلى القضاء لمواجهة "حملات" التشويه والتحريض التي تستهدفها منذ المرحلة التأسيسية؛ هو أمر لا يمكن فهمه إلا في إطار المزايدات السياسوية والأيديولوجية التي لم تتأخر حتى نقابة الصحفيين عن الانخراط فيها. وهي مزايدات لها عدة وظائف يمكننا أن نذكر منها الوظائف التالية:

- مواصلة الضغط على حركة النهضة وتوفير غطاء سياسي ومدني ومهني لكل الأصوات والمنابر التي توظف في إطار إضعاف التوافق أو حتى إجبار الحركة على الخروج من الحكم (بل من مجمل الحقل السياسي).

- تخفيف الضغط على "العائلة الديمقراطية" وعلى بعض رموزها السياسية والإعلامية الذين تحوم شكوك قوية حول تورّطهم في قضايا تجسس لفائدة رجل أعمال فرنسي يهودي.

- شرعنة الفوضى الإعلامية بدعوى حرية الإعلام مع توظيفها ضد أي طرف قد يمس بمصالح النواة الصلبة للمنظومة الحاكمة قبل الثورة وبعدها (وهي نواة جهوية- مالية- أمنية معروفة).

- التغطية على المال الفاسد الذي يحرك أغلب المنابر الإعلامية التقليدية والافتراضية، ومنع أي مس بالمصالح المادية والرمزية لرجال الأعمال الذين يتحكمون في الخطوط التحريرية المحرّضة على طرف سياسي معين.

- توظيف هذه القضية لتغذية صراعات الهوية، والعودة إلى مربع الصراعات الأيديولوجية التي تحرف الرأي العام عن مشاكله الاقتصادية والاجتماعية والقيمية الحقيقية في كل استحقاق انتخابي.

قد يكون من باب الحيف إنكار أي إصلاح للمشهد الإعلامي بعد الثورة، ولكن من المؤكد أن أغلب المنابر الإعلامية ما زالت إلى الآن مجرد عناصر "لاوظيفية" من منظور بناء ثقافة المواطنة والعيش المشترك، فضلا عن طابعها اللاوظيفي في علاقتها باستحقاقات الثورة وبمسار الانتقال الديمقراطي. وهو واقعٌ يجب أن يتعامل معه المتدخلون في الشأن الإعلامي، بعيدا عن ادعاءات التعديل الذاتي التي لم تنجح إلاّ في رسكلة الرأسمال البشري والقيمي للمنظومة الحاكمة قبل الثورة؛ أكثر من نجاحها في الانخراط الحقيقي في "مشروع الجمهورية الثانية" الذي لا يمكن أن تؤسسه ثقافة"ما قبل الحقيقة".