قضايا وآراء

هل يمكن أن يثور الشعب المصري مرة أخرى؟

1300x600
من المعروف أن مصر تعتبر أقدم دولة مركزية عرفها العالم نظرا لنشأتها على ضفاف النيل وانشغال أهلها بالزراعة

وتحكم الفرعون وقتها فيما يزرع ويحصد وبالتالي كان "الشعب" مرتبط ارتباطا وثيقا بحاكمه - ولا يزال - ليس لأنه الحاكم فحسب، ولكن لأنه الإله كذلك في الحضارة الفرعونية.

حتى النصّ القرآني حين جاء مخاطبا سيدنا موسى عليه السلام، كان الأمر بالذهاب إلى "فرعون" وليس إلى الشعب كما كان الأمر لباقي الأنبياء بدعوة "قومهم"، وهو ما يؤكد على مركزية الحاكم أو السلطة في الشعب المصري منذ قديم الأزل ومدى تأثيره عليه.

هذه الخلفية مهمة في تحديد علاقة الشعب بالحاكم، كما أن المفكر العظيم جمال حمدان قد استفاض في موسوعته شخصية مصر في شرح هذه الطبيعة وفهمها بما يكفي ويزيد.

إذا انتقلنا سريعا إلى تقييم سريع للوضع الحالي، نجد أن الشعب المصري كلما سنحت له فرصة حقيقية للتغيير كان عندها ولم يتأخرّ أو يتراجع مهما كلفه ذلك من تضحيات.

في انتخابات 2005 م حين شعر المواطن أن صوته يمكن أن يكون له قيمة ويمكن أن يحدث فارقا لم يتخلف وشهدت هذه الانتخابات حضورا كثيفا وكانت هناك نماذج كثيرة للتحدي والصمود تحدث عنها العالم أجمع ووثقها واضّطر النظام أمام الطوفان البشري الزاحف إلى صناديق الاقتراع إلى اطلاق الرصاص الحيّ على المصوّتين أمام اللجان حتى قتل منهم 12 شخص، فكانت هذه في رأيي أول ثورة حقيقية ضد النظام المستبد.

وفي الانتخابات الطلابية أو النقابية كلّما سنحت فرصة لاختيار الأفضل كان الشعب يحسن التمييز والاختيار.

وعندما قامت ثورة يناير كصدى كبير للثورة التونسية، خرج الشعب وأسقط الطاغية، ولكنّ النخب السياسية (وليس الشعب) هي من اختارت أن تنهي المعركة وتنسحب من الميدان بعد تنحي مبارك مباشرة، ولو قررت الصمود لصمد الشعب معها.

وفي كل الاستحقاقات الانتخابية بعد ذلك وقف الشعب إلى جانب من يعتقد أنهم الأفضل والأصلح، وكانت كل الاختيارات في الجانب المعاكس للسلطة الحاكمة وقتها وهو المجلس العسكري.

حتى بعد الانقلاب وشيطنة الإعلام للإخوان والرئيس، اختارت الملايين أن تصمد في رابعة والنهضة أو تتضامن معهم، ودفعت ثمنا غاليا في سبيل الحفاظ على إرادتها.

في كل استحقاق تواجدت فيه القيادة الحقيقية وفتحت فيه نافذة للأمل والتغيير (انتخابات، ثورة، اعتصام)؛ خرج الشعب وأدّى واجبه، حتّى أغلق النظام العسكري كل نافذة للأمل، واستخدم آلته الإعلامية لتبغيض الثورة وأهلها للناس وأظهر النظام؛ القادة الذين كان الشعب يثق فيهم في صورة العاجزين قليلي الحيلة، لا يظهرون إلا وهم سجناء يشكون إلى القاضي - مضطرين - ظلم السجّان. وليس النظام بأحمق حين يسمح بهذه المشاهد أنّ تمرّ وتذاع، لكنه يعلم أثرها النفسي على عامة الشعب.

وأكمل إعلام رافضي الانقلاب المشهد بحسن نية، كنتيجة لغياب القيادة والرؤية، فنشر البكائيات وركّز على مواطن الضعف (لأنه لا يجد غيرها) من اعتقالات واختفاء قسري، فكانت الصورة النهائية أن هذه الثورة أهلها عجزة ضعاف قليلو الحيلة؛ لا يجيدون سوى الصراخ والعويل والنحيب.

فأدرك الشعب أنه ما من قائد يثقون فيه وما من نافذة للأمل ينظرون إليها، فانشغل كل واحد منهم بالنجاة بنفسه (انجُ سعد فقد هلك سعيد).. فلم تكن المشكلة أبدا في الشعب، لكنها في النخب التي من المفروض أن يسير خلفها مطمئنا واثقا من أن لديها الحكمة الكافية لإنقاذ الوطن.

أمر آخر: من قال إن الشعوب بكاملها تشارك في عملية التغيير؟ لم يحدث ولن يحدث؟؟ في كل الشعوب على وجه البسيطة هناك كتل فاعلة، وهي الأقلية، وأخرى غير فاعلة، وهي الأكثرية.

من خرج في ثورة يناير لم يكن الشعب بكامله، وأحسن التقديرات قالت إنهم الخمس، وبعضهم قال إنهم لم يتجاوزوا العُشر. وفي كل الاستحقاقات الانتخابية، كانت النسب المشاركة تدور جميعها حول الخمس تقريبا، صعودا وهبوطا.

وبالتالي، أي حديث عن حراك مجتمعي أو ثوري لا يمكن أن يستهدف الشعب بكامله، بل فقط كتل التغيير فيه.

إن الشعب اليوم بعد ما يقارب الخمس سنوات من عمر الانقلاب العسكري؛ أصبح في حالة سخط وغضب شديد على الأوضاع التي وصلت إليها البلاد على كافة المستويات. لقد وصل الشعب إلى ذروة غضبه، لكنه غضب إما فردي لا يأخذ شكل حراك مجتمعي نتيجة الخوف من السلطة الغاشمة، وإمّا مكتوم لا يظهر على السطح لذات السبب.

وهذا لعمرك نقطة في صالح الثورة إن وجدت من يستغلها ويحسن العمل عليها، فيعيد للناس الأمل ويزرع فيهم الثقة من جديد، ويفجرّ بركان الغضب المكتوم هذا ويوجهه في الاتجاه الصحيح.

وبالتالي، أي قيادة للثورة يجب أن يكون همها الأول والأخير هو إعادة الأمل للشعب، وزرع الثقة بينها وبينه من جديد. ولتعلم يقينا أنه لا سبيل آخر غير ذلك، فالدولة الحديثة بما تملك من مؤسسات وأفراد وعتاد وقدرات في التحكم والسيطرة؛ تجعل أي عملية تغيير لا تعتمد على الشعب هي حالة انتحار جماعي لأصحابها ليس إلّا، فالشعوب وحدها هي القادرة على فرض كلمتها وسيادتها إذا خرجت من عقالها.