قضايا وآراء

الإصلاح بعد الأفغاني

1300x600
تفرَّق أتباع السيد جمال الدين الأفغاني ومُريدوه فِرَقا؛ بعد خروجه من مصر منفيّا (عام 1879م) إلى الهند بإيعاز من البريطانيين. ونحن نوافِق من يذهب إلى ظهور ثلاثة اتجاهات رئيسية لـ"العمل الوطني"، في مرحلة ما بعد طرد الأفغاني وقبل الاحتلال البريطاني (1882م)؛ لتحقيق الغايات التي اتفق عليها الجميع، وإن اختلفت وسائلهم.

كان الاتجاه الأوَّل انقلابيّا يؤمن بدور العسكر في العمل السياسي، وأهميَّة استفادتهم من السلاح الذي بأيديهم لحسم الأمور ضد أعداء البلاد من الأجانب والمحليين، (لاحظ التشابُه بين ضيق أفق العسكر وبعض أصحاب الأيديولوجيات الجهادية!)، وبدهي أنه اتجاه يقوده الضباط المصريون (الفلاحون) وعلى رأسهم أحمد عرابي ورفاقه. أما الاتجاه الثاني فكان ثوريّا يؤمن بالشعب وقواه وطبقاته، وهو اتجاه وَرِثَ عن الأفغاني خاصية الإيمان بقدرات الجماهير، وأضاف إليها حذرا "بروليتاريّا" من أن يجني الأغنياء ثمار عمل نهض بتضحياته الفقراء... وكان على رأس هذا التيار عبد الله النديم. وقد التحم التياران مطلع عام 1881م، على خلفية تنامي صراع التيار العسكري مع  السلطة.

وقد تزعَّم الشيخ محمد عبده الاتجاه الثالث، الذي لم يكن مؤمنا بالثورة ولا الانقلاب كطريق لتحقيق نهضة الشرق، إنما كان يرى في التربية والتعليم والاستنارة الفكريَّة سبيله لبلوغ هذه الغاية... وقد كان تيارا مُناهضا للنفوذ الأجنبي، إلا أنه لا يؤمن بالعامة والجماهير، وإنما يعلق الآمال على الفئة المثقفة المستنيرة، ويراهن على الطبقة الوسطى النَشِطَة، التي تريد كسب مواقع الأجنبي، والتسلُّح بـ"العلم" لتطوير البلاد (لاحظ التلاقي بين آفاق البورجوازية العلمانية والجمعيات الإسلامية المسيَّسة، التي ظهرت لاحقا من رحم تعاليم محمد عبده وتلميذه رشيد رضا؛ مثل الإخوان المسلمين!). كذا كان هذا الاتجاه مُعارضا للطبقة الإقطاعية؛ لأنها ذات أغلبيَّة جركسية غير "مصرية". وقد ضم هذا التيار كثيرين؛ أمثال: سعد زغلول، وسليمان أباظة، والشيخ محمد خليل.

وفي إطار هذا التقسيم يمكننا فهم لماذا مثلا ضخَّم انقلاب تموز/ يوليو 1952م من حجم أحمد عرابي وحركته، بوصفهم النموذج "الوطني" الوحيد (!) كما يمكننا تلمُّس أسباب ذهول سعد زغلول من قدرات العامة في ثورة عام 1919م، وتفهم حقيقة كونه زعيما بالمصادفة.

يعرض محمد عمارة لموقِف تيار الشيخ محمد عبده، وهو الموقف الذي شابه الالتباس وسوء التفسير. فآلية العمل الوطني قد اختلفت منذ البداية، لكن الانتصارات التي حققها عرابي بعد مظاهرة عابدين (9 أيلول/ سبتمبر 1881م) جذبت هذا التيار قريبا من مواقع الثوار، ثم عاد بهم فشل الثورة (أيلول/ سبتمبر 1882م) إلى موقفهم الأول من جديد...!

ولعل بعض عبارات الشيخ محمد عبده تُبرز موقفه المركَّب؛ إذ يقول مثلا: "... من يريد خير البلاد فلا يسعى إلا في إتقان التربية، وبعد ذلك يأتي له جميع ما يطلبه..."، "لم تكن الثورة من رأيي... ولكن لما مُنح الدستور؛ انضممنا جميعا إلى الثورة كي نحمى الدستور...".

ورغم أن معين هذه التيارات يبدو واحدا، وهو رؤية الأفغاني؛ إلا أنها قد حفلت في التحليل النهائي بكم كبير من التناقُضات الظاهريَّة، وإن كان تلاقيها واضحا على مستويات أعمق. مستويات اقتربت بمواقع هذه التيارات بعضها من بعض مع تصاعُد المد الثوري، حتى كادوا يندمجون في تيار واحد. والحق أن مرجع ذلك ليس تركيبية رؤية الأفغاني فحسب، بل لكونها في الأصل هجينا فلسفيّا مؤلفا من كل هذه العناصر، وإنما تبدو عناصرها الموافِقة للحظة التاريخية بحسب مقتضى الحال.

الخلاصة التي نخرج بها من هذا الاستعراض المقتضب لطرائق "الإصلاح" بعد الأفغاني، هي أن مواقف تلاميذه كانت جميعها تنحو منحى حداثيّا، مثلها في ذلك مثل المعين الذي استقَت منه. وإذا كان بوسعنا تعريف الأفغاني بوصفه أبا الحداثة السياسية في العالم الإسلامي، فقد كان مصدر حداثته "تراثيّا" بصورة ما: فلسفة ابن سينا المشائية (الإغريقية الأصول والمباني!) التي هيمنت على وجدانه. لكن جمهرة تلاميذه قد تلقفوا المقولات بغير كبير إدراك لأصولها، وعملوا على التماهي مع الحداثة الغربية التي لم تكن تعاليمها السياسية تتعارض في شيء مع روح ابن سينا وفلسفته، التي أسهمت بقدر ضخم في تشكيل وجدان الغرب الحديث.