(1)
لعلك تابعت (مثلي) الخبر المنشور عن هبوط أول طائرة هندية يُسمح لها بالمرور في الأجواء السعودية؛ في مطار بن غوريون، في دولة الكيان الصهيوني، يوم 23 آذار/ مارس 2018، وهو خبر صحيح وليس مجرد توقعات؛ لأنه حدث بالفعل ونشرته وكالات الأنباء العالمية، ولم يتم نفيه أو تصويبه أو تبريره.
هذا الخبر يؤكد ويعزز ما ذهبت إليه في تحليلي في هذه السلسلة من المقالات؛ بأن المنطقة العربية بصدد تحول كامل في نمط التحالفات، والتي كانت تستبعد دولة الكيان الصهيوني من المعادلة الإقليمية، لتصبح اليوم في قلب المعادلة بل وتقودها.
وقد يسأل سائل: وما الذي يدفع المملكة إلى اتخاذ مثل هذا القرار المخالف للإجماع العربي المنعقد عبر عقود منذ احتلال الصهاينة لأرض فلسطين؟
يأتيك الجواب الفوري: وما المانع يا أخي من أن نتعاون مع الدول الصديقة والتي تقف معنا في خندق واحد ضد التهديد الإيراني! أو قد يقول قائل: نحن نبحث عن مصالحنا، وبالتالي لا حرج.
هذا بالضبط ما عنيته بالتغيير الجوهري في طريقة تفكير المجموعات الحاكمة، والتي تم تدجينها لتصبح جزءا من المشروع السياسي الجديد الذي تقوده دولة الكيان.
هذه النوعية من التفكير تقضي على فكرتين سابقتين وراسختين في العالم العربي، وهما فكرتا العروبة وفكرة الإسلام، وكلتا الفكرتين تستبعدان أي صورة من صور التقارب مع العدو الصهيوني الذي احتل فلسطين وأراضي عدة دول عربية، من بينها سوريا ومصر والأردن ولبنان.
العالم الجديد يقفز على أفكار عروبية وإسلامية راسخة؛ لصالح أفكار ليس لها علاقة بالدين ولا العرق ولا الأرض ولا باللغة ولا التاريخ ولا الحضارة.
(2)
رغم معارضة الشعوب العربية للتقارب مع الصهاينة، إلا أن مشروع العالم الجديد يقوم على فكرة تحييد الشعوب العربية عبر الضغط عليها وإجبارها على السكوت والخضوع لما يجري له أو يجري عليه. ويمكنك عزيزي القارئ أن تدرك ذلك في ما يجري هذه الأيام في
انتخابات العار التي تجري في
مصر تحت إشراف الأمن والمخابرات، والجميع يدرك أن الشعب غير معني بهذه الانتخابات. ولكن آلة القهر والكبت والإخضاع تريد تحويل الانتخابات من عملية ديمقراطية إلى مظاهرة تأييد منظمة ومبرمجة سلفا، وهذا أيضا تحول كبير في المفاهيم.
(3)
في السابق كنا نعرف العملية الانتخابية بأنها تنافس بين مرشحين للحصول على ثقة الناخبين، أما اليوم فهي حفلات رقص وغناء واستدعاء لمن تستطيع السلطة الضغط عليهم ليتواجدوا في مظاهرة أمام اللجان. الانتخابات اليوم، وفي عالمنا الجديد، ليست سوى تكريس للاستبداد عبر مظاهر احتفائية؛ لأن المطلوب هو طمس معالم الانتخابات الحرة وجعلها جزء من الماضي البعيد.
الانتخابات كما أرادها السيسي وصرح قبل أيام في لقاء المرأة المصرية هي مظاهرة يصطحب فيها الآباء الزوجات والأبناء حتى الذين لا يحق لهم التصويت لأن التصويت ليس مهما ولكن المهم هو إثبات حالة الحشد والتباهي بها أمام صحافة العالم وبعض منتقدي النظام في الخارج، أما الداخل فليس مهما.
(4)
يحدث في مصر الآن عملية تحول من نموذج كان يؤمل أن يكون ديمقراطيا إلى نموذج الحكم القسري الجبري، وبدلا من أن تنشر مصر ثقافة التغيير الديمقراطي في دول المنطقة، فإذا بها تقلد النموذج البدوي والقبلي القائم في معظم دول مجلس التعاون الخليجي. وهذا ما عنيته في المقال السابق، حين نوهت إلى فكرة تغير مراكز القوى والثقل السياسي، وانتقال دول الهامش والأطراف إلى مركز الثقل، وتحول الدول الكبيرة إلى أطراف تابعة ومقلدة للمركز الجديد.
في مصر يتم ترسيخ حكم العسكر وتلاشي الدولة لصالح القبيلة العسكرية، وفي نفس الوقت تكتشف، وأنت تشاهد الانتخابات، أن المطلوب هو تعويد الشعب وترويضه لكي يقبل بتحول الانتخابات من عملية تنافسية للوصول إلى الحكم إلى عملية ترفيهية للتسابس وتضييع الوقت، بدلا من ترسيخ الممارسة
الديمقراطية التي من أجلها قامت ثورة يناير 2011.
(5)
هذا الذي يجري في مصر، من تحويل السياسة إلى علمية ترفيهية، قد حدث مثله في السعودية ومعظم دول الخليج حين ألغيت السياسة وحل محلها رجال الدين بفتاواهم الشاذة، واليوم تمت إحالة رجال الدين ليتم الاستعاضة عنهم بالترفيه والفن. المهم أن السياسة لا مكان لها ولا محل لها من الإعراب.
وكما تم إلغاء الدولة والسلطة في السعودية لصالح أسرة آل سعود ثم آل سلمان، يتم إلغاء الدولة المصرية لصالح التشكيل العسكري الأمني الممثل بالجيش والشرطة والمخابرات.
(6)
في العالم الجديد مطلوب استبدال المعتقدات وتبديل المفاهيم وتغيير طريقة التفكير، والقبول بما يملي علينا، وإلا أصبحنا جميعا إرهابيين ومتطرفين.