قضايا وآراء

من فوق العمارة

1300x600
قبل أن يرمي رونالد أوبوس نفسه من الدور العاشر، كان قد ترك رسالة يؤكد فيها أن سبب إقدامه على الانتحار هو اليأس من الحياة.

في 23 آذار/ مارس 1994، بيّن تقرير تشريح الجثة أن موت رونالد كان بسبب طلق ناري انطلق من شباك العمارة التي يقطن فيها، ليصيبه في رأسه في أثناء سقوطه. يوضح التحقيق أن الرصاصة كانت قد انطلقت من شقة زوجين اشتُهرا بين جيرانهما بشجارهما الدائم.

في مداخلة دفاع الرجل العجوز المُتهم بالجناية أمام القاضي قال معترفا، إنه كان في حالة هيجان شديد في أثناء شجاره مع زوجته حين ضغط على الزناد، حيث انطلقت الرصاصة لتصيب الشاب المنتحر، متخطية زوجته العجوز. وأضاف العجوز للتحقيق، معترفا بأنه كان قد اعتاد دوما على تهديد زوجته بالمسدس نفسه، الفارغ من الرصاص.

في ملابسات جريمة القتل هذه، جاءت شهادة من أحد الجيران القريبين من شقة العجوزين قائلا، إنه شاهد ابنهما يحشو المسدس بالرصاص قبل أسبوعين من الحادث، مضيفا أنه سمع شجارا أيضا بين الابن وأمه بسبب امتناع الأم عن إعطاء المال له، لتساعده على سد العجز في أوضاعه المالية المتدهورة.

من المفارقات الكبرى، أن الابن هو رونالد نفسه، فتتحول بذلك تهمة القتل من تهمة القتل غير المُتعَمد لمقتول تنطبق عليه جريمة القتل المُتَعّمد. لقد قام رونالد نفسه بحشو المسدس، أداة الجريمة، مُقررا التخلص من والديه معا، انتقاما منهما لقطع المساعدات عنه من جهة ولشجارهما الدائم من جهة أخرى. لكن رونالد مَلّ من انتظار لحظة النهاية، فرمى بنفسه في لحظة انطلاق الرصاصة من مسدس كان بنفسه قد ملأ الرصاص به.

روى هذه القصة هاربر ميلز، رئيس الأكاديمية الملكية لعلوم التشريح، مصرحا بأنها قصة من وحي الخيال، أراد فيها تسليط الضوء على نسبية الأحكام القضائية وتغيرها من ملابسات حدث لآخر، حيث تختلف أحكام القضاء باختلاف الأحداث الجرمية. وبمتابعة تاريخية متأنية، تضعنا أمام حقائق وتأملات أخرى تُدلل على نسبية الحقيقية المُتغيرة بتغير المصالح والمجتمعات، إضافة لتغيير الأزمنة والأمكنة للأنظمة الاجتماعية وأنشطتها وصيروراتها كافة.

ليس هناك حقيقة مطلقة، رغم أن هذا المفهوم يُفترض أن يُشّكل جوهر الوجود الإنساني وماهيته، ويمنحه مشروعية البقاء مستقرا. السؤال عن حقيقة العدالة سؤال حيوي شغل الناس والمفكرين والسياسيين، وملأ الدنيا بوجوهها كافة. ولعل الرجوع لأيقونة تركها لنا الفيلسوف العبقري أفلاطون، في كتابه المشهور "الجمهورية"، يساعدنا كثيرا في الإجابة على السؤال الكبير: ما هي حقيقة العدالة؟