كتاب عربي 21

لحسن الداودي والقدرة الشرائية للمواطن المغربي

1300x600

لا تنفك حملة مقاطعة ثلاث شركات تنشط بالسوق المغربية تفاجئنا يوما عن يوم. انطلقت احتجاجا على أسعار لم يرتفع بعضها منذ خمس سنوات، وارتفع آخر منذ أن قررت حكومة عبد الإله بنكيران رفع الدعم عن المحروقات بدعوى أنه لا يصل إلى مستحقيه من الفقراء بل يدخل جيوب الأغنياء.


 الحملة التي حملت شعارا لها الدفاع عن القدرة الشرائية للمواطن ضد جشع الشركات أفضت في الأخير إلى ارتفاع جديد في أسعار المحروقات وتشريد مئات من العمال وقطع أرزاق مئات الآلاف من الفلاحين، وأخيرا وليس آخرا طلب إعفاء وزير تقدم به المعني لأمانة حزبه، ليس فشلا في إدارة الأزمة ولا القطاع الذي يشرف عليه، بل لتجرئه على السباحة ضد التيار بدءا من تصدر الرأي المخالف للمقاطعة، وتقديم كثير من المعطيات للعامة، وأخيرا المشاركة تضامنا مع عمال الشركة المحتجين أمام البرلمان دفاعا عما كرره الرجل منذ اليوم الأول (الفلاحون والعمال ومناخ الاستثمار). 


ففي الوقت الذي استنكر فيه كثيرون "دفاع" وزير الشؤون العامة والحكامة عن مطلب وقف المقاطعة التي تستمر منذ أسابيع، ولم يتضرر منها فعليا غير شركة سانطرال لبيع الحليب بما تمثله من واجهة للآلاف من الفلاحين الصغار وتعاونياتهم المهنية، فاجأهم الأخير بانضمامه لتظاهرة عمال الشركة أمام البرلمان. في البلدان العربية لا يتقبل المخيال الجمعي للشعب مشاركة وزير في تظاهرة ولو كانت دفاعا عن قناعات ومبادئ. أما الطبقة السياسية فالانسحاب من ساحة معركة الدفاع عن الاختيارات العمومية مقدم على الجهر بالحقائق خوفا من فقدان أصوات انتخابية أو مناصب مسؤولية. 


قد تختلف مع الوزير لحسن الداودي في كثير من الأمور لكن موقفه الأخير وثباته عليه منذ اللحظة الأولى، دونما اعتبار لشعبية شخصية أو تحذيرات حزبية من أن يؤثر ذلك في القاعدة الانتخابية ومنتسبيه، أمر لا يمكن إلا احترامه في زمن الخنوع والهروب من المسؤولية وانتظار قرارات القصر وكأن الحكومة ووزراؤها مجرد كومبارس واكسسوارات وديكور. 


الداودي كان دعا الشعب في لقاء تلفزي للتظاهر والاحتجاج على الحكومة وليس توجيه سهام مقاطعته صوب قطاع فلاحي استطاع المغرب أن يحقق اكتفاءه الذاتي فيه بعد عناء وجهد عقود. تحسين القدرة الشرائية للمواطن ومواجهة الغلاء ما كانت مسؤولية شركة ألبان، بل مسؤولية حكومة مطلوب منها رفع الأجور أولا ومراقبة الأسواق ثانيا ومساعدة الاستثمار على النمو من خلال تخفيض الضرائب وتسهيل الإجراءات ومنح امتيازات تفضيلية كما يحدث في كل دول العالم. في فرنسا، التي يحلو لنا في المغرب التشبه بها، يواجه ايمانويل ماكرون تهمة مكافأة الشركات الرأسمالية منذ انتخابه حتى اليوم. هناك لم تكن مقاطعة الفاعل الاقتصادي جزءا من حل منتظر بل كان توجيه النقد للمسؤول السياسي أساس عمل الأفراد والنقابات العمالية والأحزاب. 


الذين استكثروا على الداودي أن ينضم للمحتجين وأن يعاكس ما يبدو أنه الصوت الأعلى المنادي بالمقاطعة، استكثروا على ضحايا المقاطعة ذاتها الخروج أمام البرلمان دفاعا عن وظائفهم وعن قوت يومهم، بحجة أن الشركة هي من تدفع بهم إلى الخروج، ولم يسألوا يوما عن جدوى مقاطعة لم تخفض أسعارا ولم ترفع من جودة منتجات. 


عندما انطلقت حملة المقاطعة كان واضحا أن محركها لم يكن اقتصاديا ولا سياسيا بل حزبيا صرفا في أفق التحضير لانتخابات 2021. تطورات الأحداث أظهرت كيف أن المستهدف الأساسي لم يتضرر اقتصاديا ولا وصلته حمى الحرق السياسي الذي أريد له حتى الآن. المعني بالمقاطعة كان ولا يزال عزيز أخنوش، المساهم في شركة افريقيا للمحروقات ووزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، الذي يتهم بالتسبب في إبعاد عبد الإله بنكيران والتحضير، عبر بوابة تطوير حزبه، لاحتلال منصب رئيس الحكومة في انتخابات 2021.

 

ولأن اللعبة تكاد تكون على المكشوف، فقد تحول مجرى النيران لتبدأ في حرق جلباب حزب العدالة والتنمية الذي تنادت الأصوات من داخله تحذر من "عملية القتل الرمزي الجارية بأساليب لا تليق بما راكمه مناضلون أحرار بتضحيات جسيمة.. هذا الرصيد لا يمكن أن يعتبره أي من الأعضاء مهما كان موقعه رصيدا شخصيا يبدده كيف يشاء بعيدا عن اختيارات الحزب". لحسن الداودي قبِل أن يقدم نفسه قربانا لحفظ ما تبقى من صورة حزب ارتدت عليه التطورات وبالا. 


 مشكلة الطبقة السياسية بالمغرب أنها تضمر ما لا تعلن وتقدم من الوعود ما تستطيع الإيفاء به. ومشكلة الجمهور أنه مستعد للانطلاق في حملات مجهولة المصدر بمجرد أنها تلمس لديه وترا أو حاجة أو طموحا ولو كان ضدا على مصلحة قطاع كامل تقول الدولة أنها قطعت شوطا كبيرا لتحقيق الاكتفاء الذاتي فيه.  


حملة التخويف المستمرة بأفول العدالة والتنمية الصادرة من تيار معين من داخل الحزب، ومحاولات القتل الرمزي المتواصلة بلا هوادة ضد عزيز أخنوش، والحديث عن ملتمس رقابة قد يطيح بالحكومة أمام البرلمان مع استحضار ضرورة تدخل الملك لإيقاف النزيف وإقالة الحكومة، كلها تسخينات تظهر أن المقاطعة ما كانت يوما تستهدف رفع الغلاء عن الناس ولا تحسين قدرتهم الشرائية. 


المقاطعة بشكلها الحالي مجرد فعل آني للتحريك، والعين على 2021 وربما ما قبلها.