كتاب عربي 21

النفط مقابل الحماية (2)

1300x600

في فيلم (سيريانا – 2005) للمخرج ستيفن غاغان، نشرة إخبارية اقتصادية دأب المحلل الاقتصادي برايان وودمان على المشاركة فيها. تسأله المقدمة عن رأيه في المشاكل التي تواجه صفقة دمج شركتي البترول كونكس الأمريكية وكيلين الكازاخستانية وتأثيراتها على سوق الطاقة العالمي.

 

برايان: تعرفين ربيكا.. الدمج هو السبيل الوحيد أمام كونكس للدخول إلى أحواض البترول بكازاخستان لأن الغاز الطبيعي بالخليج صار بيد شركات أجنبية أخرى. الدول المنتجة مهتمة بمصير السوق الأسيوية وهو ما يؤثر بشكل كبير على أسعار الخام.. ننتظر تقلبات بمعدل 10 إلى 12 دولارا بسبب عوامل اللا استقرار مثل الاحتجاجات بإيران والإضرابات الشاملة بفنزويلا ورفض الأتراك لمرور البترول الروسي عبر البوسفور.

 

الإضرابات الشاملة في فنزويلا صارت أمرا واقعا حول دولة بترولية إلى دولة أقرب ما تكون إلى "الفشل" في ظل رئاسة مادورو، خليفة تشافيز، المعادي للهيمنة الأمريكية بجنوب القارة ووسطها. أما رفض الأتراك لمرور المنتجات الطاقية الروسية عبر أراضيها فربما صار من الماضي بالنظر إلى خريطة التحالفات الأقليمية والدولية المستجدة. وفي إيران لا تتوقف الاحتجاجات الشعبية حتى تستعر من جديد، ولعل في احتجاجات البازار، قبل أسابيع، المؤشر على أن القادم قد يكون أسوأ في ظل سعي الإدارة الأمريكية لدفع حلفائها للاستغناء عن النفط الإيراني بدءا من نوفمبر القادم حيث تدخل العقوبات الأمريكية حيز التطبيق. وبين هذا وذاك تبدو الصين، بقوتها الاقتصادية الكبرى، لاعبا "جديدا" وأساسيا يمكنه قلب المعادلات بالنظر إلى علاقتها الراسخة بايران وروسيا ومواجهتها لحرب اقتصادية أمريكية، لا يرى منها ترمب غير الوجه الآخر للعملة أسماه "حربا قذرة" في قمة الناتو الأخيرة.

 

لم يغفل فيلم "سيريانا" عن الدور الصيني المتعاظم بالخليج حد القدرة على إخراج الأمريكان منها. فقد كانت دعوة الملك السبيعي لممثلي الشركات الأمريكية لقصره في ماربيا الإسبانية مجرد غطاء لتمرير صفقات مهمة لفائدة الصينيين، بناء على رغبة ابنه الأكبر، المرشح لولاية العهد، في التحرر من التبعية لأمريكا. النتيجة أن الأمير الشاب تحول إلى مجرد داعم للمنظمات الإرهابية وشيوعي رأسه مطلوبة للغرب. أما في الفيلم الأمريكي (مجسم للملك – 2016) للمخرج توم تايكوير، فقد التحق الأمريكي آلن كلاي بركب ممثلي الشركات العالمية الطامحة للظفر بصفقات كبرى بالسعودية  حيث تنافس الجميع على تقديم "بضاعتهم" أمام الملك الذي يقوم بإنشاء مدينة جديدة باستثمارات ضخمة رست عطاءاتها في الأخير على الصينيين. في إفريقيا، كان الصراع على أشده لترسيخ النفوذ واستطاعت دول عديدة سحب البساط من تحت أقدام الأمريكان والفرنسيين على الخصوص. لاعبون جدد ظهروا في الساحة واستطاعوا أن يجدوا لهم موطأ قدم في قارة لا تزال قابلة للاستكشاف والاستغلال. اللاعبون الجدد توزعوا بين إيران وتركيا وإسرائيل ومعمر القذافي الذي انتهى به المطاف مقتولا على أيدي ليبيين.

 

لا غرابة إذن في أن تتقاطع خيوط الحروب التجارية للإدارة الأمريكية لتشمل الحلفاء الأوربيين والصينيين والإيرانيين. وحدهم الروس يبدون خارج دائرة الاهتمام الرئاسي الأمريكي لأسباب ظلت حتى اليوم عصية على الفهم حتى بالنسبة للأمريكيين. ولعل في الجدل الذي رافق اجتماع قمة هلسنكي بين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين ما يضيف على المشهد غيوما تزيد الموقف ضبابية وغموضا. لكن الأكيد أن مغادرة الشركات الغربية للسوق الإيرانية، مخافة العقوبات الأمريكية، يصب في مصلحة الصينيين ويقربهم من السيطرة الفعلية على مفاصل الاقتصاد والأمن الطاقي بالشرق الأوسط ومعهم الروس.

 

وفي ظل هذا الواقع الذي تستميت فيه الدول المؤثرة في الدفاع عن مصالحها أو البحث عن بدائل ممكنة للالتفاف حول العقوبات، تبدو معظم دول المنطقة العربية مستكينة لمصيرها الذي تقرره القوى الكبرى في لعبة سايكس بيكو اقتصادية تحولت معها المنطقة العربية، والخليج على الخصوص، إلى مجرد منجم حديد أو نحاس أو فوسفات أو بئر نفط مستباح. فلا نحن ننتج غذاءنا أو نصنع احتياجاتنا الأساسية، بل نرتهن في كينونتنا وبقائنا على قروض البنوك الدولية عند فقراء الدول أو القواعد العسكرية الأجنبية عند أغناها، والمقابل ابتزاز مالي مدمر للثروات وتنازلات سياسية تسعى لتغيير وجه المنطقة وإعادة ترتيب تحالفاتها. 

 

إيران هي مفتاح تكريس النفوذ الأمريكي من جديد. ولتطويعها وجب تخويف الجيران منها عبر إشعال حروب مذهبية وطائفية تتحول إلى صراعات فعلية على الأرض عربون تمدد إيراني في الفضاء السني. والنتيجة المرجوة تدمير للقوة الإيرانية الصاعدة وتجفيف لمنابع الثراء الخليجي. فالحرب على إيران، تجارية كانت أو عسكرية، ستقوض لا محالة كل الخطط والرؤى الخليجية لتنمية وتطوير البنى التحتية وتنويع الاقتصاد في غياب بدائل حقيقية، غير مكلفة، للتهديد الإيراني بإغلاق مضيف هرمز واستهداف الملاحة الدولية به في حال الإقدام على منع تصدير النفط الإيراني. الأمريكان والروس والصينيون والأوربيون يخططون، ورحى الحرب لن تخرج عن إطار الأرض العربية في وقت تستنزف فيه قوى دول عربية "كبرى" في حروب لا طائل من ورائها، قد تشكل يوما صك إدانة القائمين عليها أمام المحاكم الدولية وما قد يستتبعها من كوارث لنا في العراق نموذج في تخيل مداها.

 

في فيلم (سيريانا) دائما، وفي اجتماع رسمي أمريكي خصص لاستطلاع رأي العميل الاستخباراتي روبرت بارنس بخصوص إيران بالنظر إلى خبرته في المنطقة، تحاول رئيسة الاجتماع ومن معها دفع الرجل للتسليم بأن إيران لا تشكل خطرا على أمريكا باعتبارها "حليفا ثقافيا"، مقابل عالم عربي إسلامي يمتد من الرباط إلى اسلام أباد مثير للمشاكل والقلاقل والعنف. 

 

روبرت بارنس: إنهم يتركون المجال للشباب للتظاهر في الشوارع ثم يغلقون الصحف في اليوم الموالي. للناس حق التوفر على لواقط هوائية ومشاهدة البرامج الأمريكية لكن ذلك لا يعني أن "آيات الله" مستعدون للتنازل قيد أنملة عن السيطرة التي يطبقونها على الشعب.

 

مسؤول 1: سيد بارنس، رئيسنا يأمل أن تستمر حركة الإصلاحات الإيرانية وأن تتعاظم. إنها عنصر مهم للأمن الطاقي الأمريكي.

 

مسؤول 2: (يشير إلى مجموعة من الأشخاص) هؤلاء الحاضرون في الاجتماع ينشطون مع لجنة تحرير إيران يا سيد بارنس.

 

النفط كان السلاح الأهم لدى العرب في مواجهة الخصوم. أمريكا فهمت الدرس في منتصف سبعينيات القرن الماضي وصار لها، بالإضافة إلى اليد الطولى على منابعه، مخزون استراتيجي يقيها تقلبات السوق.هكذا صار ظهر الخليج مكشوفا بلا سلاح. ولسنوات ظلت المملكة العربية السعودية، باعتبارها أكبر منتج للنفط، تنتهج سياسة الأسعار المنخفضة سعيا منها لضرب الإنتاج الصخري الأمريكي والإضرار بالمصالح الاقتصادية الروسية، ولم تجن غير انخفاض كبير في عائداتها وما رافقه من استنزاف لاحتياطاتها من العملة الصعبة. الآن، تستعد لإعادة الكرة إنفاذا لأوامر دونالد ترمب وإنقاذا للاقتصاد الأمريكي من ارتفاع الأسعار المنتظر بعد تفعيل العقوبات على إيران في وقت تحتاج فيه المملكة لتمويل مجموعة المشاريع "الفرعونية" التي أعلنت إطلاقها. السعودية هي "الجائزة الكبرى" للفوضى الخلاقة التي أطلفتها الإدارات الأمريكية السابقة على أرض الخليج ومنطقة الشرق الأوسط، وما دونالد ترمب وسياساته إلا حلقة معدلة من الإستراتيجية الأمريكية بالمنطقة مهما اختلفت الإدارات وتغيرت الوجوه.