قضايا وآراء

هل يتخلى عسكر الجزائر عن بوتفليقة؟

1300x600
قبل عدة أيام، وتحديدا في الرابع عشر من تموز/ يوليو، دعا السياسي الجزائري الدكتور عبد الرزاق مقري، رئيس حركة مجتمع السلم (أحد الأحزاب المنبثقة عن جماعة الإخوان المسلمين)، إلى مساهمة الجيش الجزائري فيانتقال آمن وسلس لنظام ديمقراطي حقيقي في البلاد، ولعب دور فاعل في حل الأزمة السياسية الراهنة، بالتعاون مع كل القوى الوطنية في إطار توافق وطني، كما دعا المعارضة السياسية للاتفاق على مرشح رئاسي توافقي لخوض انتخابات 2019 في مواجهة الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة.

دعوة مقري بدت مفاجئة، أو حتى صادمة للبعض، خاصة أنها جاءت من شخصية إسلامية يقوم مشروعها بالأساس على "تمدين" الحكم وليس ترسيخ عسكرته. وقد فهم هذا البعض أن مبادرة مقري هي دعوة لعودة تدخل الجيش الجزائري في العمل السياسي، وهو ما نفاه الرجل بشده في حوارات صحفية لاحقا، وعبر اتصال شخصي مع كاتب هذا المقال، لكنه أكد أن خبرة السنوات الماضية أثبتت أن المؤسسة العسكرية هي قوة أساسية لا يمكن تجاهل دورها لتحقيق انتقال ديمقراطي آمن، على غرار تجاب عالمية كان للمؤسسات العسكرية فيها دور مهم، كما حدث في إسبانيا والبرتغال، ودول وسط وجنوب أمريكا..

تنطلق دعوة مقري (وهي ليست جديدة تماما، فقد سبق أن طرحها في أيضا في العام 2016، كما طرحها ساسة آخرون) من الواقع السياسي الجزائري؛ الذي لا يزال يعيش تداعيات انقلاب العسكر على الديمقراطية الوليدة في العام 1992، حين فازت جبهة الإنقاذ بغالبية المقاعد النيابية بعد البلديات، وقد تدخل الجيش وقتها ملغيا تلك النتائج، وملغيا العملية الديمقراطية كلها، وإن سمح لاحقا بهامش ديمقراطي ضئيل شاركت فيه حركة مجتمع السلم بقيادة مؤسسها الراحل محفوظ نحناح، وكان من أبرز كوادرها أيضا عبد الرزاق مقري نفسه. ولا تزال الجزائر تعيش في ظل هذا الهامش الديمقراطي، والذي لم يتطور مع موجة الربيع العربي، ووصل الأمر بمن يديرون الجزائر فعليا إلى الحرص على إعادة ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفيلقة؛ رغم شيخوخته البادية، وحالته المرضية الصعبة التي لا تمكنه من إدارة البلاد، وتجعله مجرد ستار لمن يديرون فعليا من خلف هذا الستار.

مجددا، وصلت الحالة السياسية في الجزائر إلى مرحلة التكلس، وفشلت المعارضة في توحيد جهودها لحلحلة الوضع، وأصبح المتاح أمامها هو قبول الأمر الواقع، والتعامل تحت ظلال الهامش الديمقراطي الذي لم يتسع، مع تصاعد الأزمات الاقتصادية والمعيشية، وحالات الفساد في البلاد، والتي كان آخرها قضية تهريب شحنة كوكايين؛ فجّرت الخلافات والاتهامات بين الأجهزة الأمنية المختلفة، وهذا التكلس السياسي الذي وفّر التربة الخصبة لنمو الفساد وتدهور الأداء الاقتصادي؛ هو الذي دفع مقري وآخرين لإلقاء حجر كبير في بركة السياسة الآسنة، عبر مبادرته للتوافق الوطني حول خارطة طريق للانتقال الديمقراطي تبدأ بانتخابات 2019، على أن تكون المؤسسة العسكرية ضامنة ومرافقة لهذا الانتقال الديمقراطي التوافقي ومساهمة فيه، في إطار دولة مدنية مهام الجيش الدستورية فيها واضحة.

لم يعد خافيا لمتابعي الشأن الجزائري ظهور تدافع بين جهتين في السلطة الجزائرية حول رئاسيات 2019: جهة الرئاسة ومعها الكارتل المالي وبدعم فرنسي، وتريد التمديد للرئيس بوتفليقة لفترة رئاسية خامسة رغم عجزه، وجهة القيادة الحالية لأركان الجيش التي يعتقد البعض أنها تعمل على التحرر من النفوذ الفرنسي، ويبدو أنها تتحفظ على التمديد والولاية الخامسة للرئيس بوتفليقة. وبطبيعة الحال، وجدت الكثير من قوى التغيير هذا التباين فرصة لها لإحداث نقلة سياسية نوعية في البلاد، وأرادت أن تستفيد من موقف المؤسسة العسكرية، لكن السؤال يبقى قائما: هل يمكن لهذه المؤسسة التي انقلبت من قبل على الديمقراطية أن تتخلى عن أحد الرجال الذي أوصلته إلى السلطة وهو الرئيس بوتفليقة؟ وهل يمكن لهذه المؤسسة أن تتحول راعية للديمقراطية بين عشية وضحاها؟ والإجابة البديهية أن هذه المؤسسة العسكرية، شأنها شان كل المؤسسات العسكرية في المنطقة العربية، تتحرك وفقا لمصالحها وما يحقق ويعزز امتيازاتها، فإن وجدت من يحقق لها ذلك ساندته، وإن وصلت إلى قناعة بأهمية الإبقاء على الرئيس بوتفيلقه رغم وضعه الصحي المتدهور فإنها ستبقي عليه، وفي الأغلب ستستغل دعوات بعض القوى السياسية لها برعاية الانتقال الديمقراطي للحصول على مزيد من المزايا الخاصة لها، ولكن يمكن أيضا للقوى السياسية أن تحقق مكاسب وطنية في مقابل تلك الامتيازات المهنية.

تستفيد الشعوب من خبرات بعضها التي قد توفر عليها بعض الجهد والوقت، وفي منطقتنا العربية ظهر التأثر من قبل في موجة الربيع العربي التي انطلقت من تونس ففجرت ثورة مصر، ثم اليمن وليبيا وسوريا، وكانت هناك إرهاصات ثورية في المغرب والبحرين، والأردن، والسودان.. الخ، لو قدر الله لثورة مصر أن تحقق أهدافها، كما أن انقلاب العسكر على التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر عام 2013، والتي أوصلت جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم، كان انعكاسا لانقلاب عسكر الجزائر على التجربة الديمقراطية الوليدة أيضا عام 1992، والتي منحت جبهة الإنقاذ الإسلامية أكثرية برلمانية. وقد عانت الدولتان (الجزائر ومصر) كثيرا عقب الانقلابين العسكريين، فدخلت الجزائر عشرية سوداء أودت بحياة مئتي ألف جزائري، كما لقى آلالف المصريين حتفهم أيضا على يد قوات الجيش والشرطة خلال فض الاعتصامات والمظاهرات الرافضة للانقلاب، وفي المواجهات بين الجيش ومسلحي داعش في سيناء. وإذا نجحت جهود الحوار الوطني في الجزائر بمشاركة المؤسسة العسكرية في نقل البلاد إلى مسار ديمقراطي حقيقي، فقد يجد ذلك صدى له في مصر وفي غيرها من الدول التي تعاني من التسلط السياسي، وإذا فشلت تجربة الحوار في الجزائر أيضا فستكون درسا لمصر وغيرها أيضا..