قضايا وآراء

هل تفاوض أمريكا السعودية بإيران كما فاوضتها بالربيع العربي؟

1300x600
تفاجأ الرأي العام العربي والخليجي مرة أخرى؛ بتغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، برغبته في الحوار مع إيران بدون شروط مسبقة، لا سيما وأن هذا التحول في الموقف جاء عقب تعليق العمل بالاتفاق النووي الإيراني، وبعد الكشف عن شروط وزير الخارجية الأمريكي "مايك بومبيو" الاثنتي عشرة، والتي تم النظر إليها إيرانيا على أساس أنها إعلان حالة حرب شاملة ضدها.

وما من شك أن السعودية وحلفاءها من دول الخليج سيتلقون هذه الدعوة بكثير من الامتعاض، وتجعلهم يستعيدون جزءا من الذاكرة السياسية، ويعيدون التفكير في فترة توتر العلاقات الدبلوماسية الأمريكية والخليجية التي أعقبت ربيع الشعوب العربية، ويطرحون سؤال محددات الموقف الأمريكي من الخليج في ضوء خياراتهم الاستراتيجية.

الكل يتذكر الغضب الشديد الذي استقبلت به السعودية وحلفاءها سياسة أوباما في دعم التحولات السياسية في الوطن العربي، وعدم استجابة الإدارة الأمريكية للطلب السعودي الإماراتي بالقيام بعمل مباشر لإجهاض الربيع العربي، وبالأخص، عدم السماح للإخوان في مصر بالوصول للحكم. والكل يتذكر امتعاض السعودية وحلفائها من الموقف الأمريكي المعارض من استعمال العنف ضد المعارضين في البحرين، وغضبهم من إعلان الإدارة الأمريكية التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وهو ما شكل ضربة قاصمة للسياسة الخارجية السعودية، وتسبب في فترة توتر عصيبة، تم فيها تبادل التهديدات بين الطرفين الأمريكي والسعودي بخلفيات مالية، إذ هددت أمريكا بسن قانون يمنع بيع السلاح للسعودية، وإصدار اتهام رسمي للسعودية بالمسؤولية المباشرة عن أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، فيما هدد وزير الخارجية السعودية عادل الجبير ببيع الحكومة السعودية أصولها الأمريكية، والبالغة 750 مليار دولار.

اللعبة نفسها تتكرر، فإدارة أوباما التي تعاملت ببراغماتية حذرة مع التحولات الديمقراطية زمن الربيع العربي، كانت تدرك أن من بين آثار هذا الحراك أن تنشغل الشعوب العربي بقضايا ترتيب الوضع الداخلي، وأن تتوارى القضية الفلسطينية إلى أسفل الأولويات، وأن يؤتي حصار الشعب الفلسطيني أكله، وتضطر حماس وقوى المقاومة لإحداث مراجعات على خطها الفكري والسياسي، وتراجعات في مواقعها على الأرض، ويعود الرهان أكثر على دور السلطة الفلسطينية، ويتم الضغط عليها للقبول بتنازلات مؤلمة تمس بالثوابت الفلسطينية.

غير أن فشل رهاناتها الشرق أوسطية، خاصة في فلسطين وسوريا ولبنان، أفضى بها إلى إعادة قراءة خارطة القوى على الأرض، والدور الإقليمي الذي باتت إيران تتمتع به، فضلا عن تمددها الذكي في المنطقة، ونفوذها القوي في الخليج نفسه، فانتهى بها الأمر إلى اختيار التهدئة مع إيران على تنفيذ أجندات أمريكية خليجية مشتركة لتقليم أظافر طهران.
اللعبة نفسها تتكرر، فقد تم البدء أولا بالتبشير بـ"صفقة القرن"، والتي تضم في أجندتها مقايضة الأمن الخليجي بتعبيد الطريق لتهويد كامل للقدس، وتواطؤ لحسم الخيار النهائي بعيدا عن إرادة الفلسطينيين

اليوم، اللعبة نفسها تتكرر، فقد تم البدء أولا بالتبشير بـ"صفقة القرن"، والتي تضم في أجندتها مقايضة الأمن الخليجي بتعبيد الطريق لتهويد كامل للقدس، وتواطؤ لحسم الخيار النهائي بعيدا عن إرادة الفلسطينيين، فتم التحمس لها سعوديا وإماراتيا بنحو غير مسبوق، لكن ما إن بدت استحالة تنفيذ هذه الصفقة، حتى نزل ترامب من جبل شروط وزير خارجيته "مايك بومبيو" إلى ساحة الحوار في أي زمان ومكان تريده إيران.

لكن المشكلة لا تكمن في تحول الموقف الأمريكي، بهذه الفجائية التي لا تقبلها مقتضيات الاستراتيجيا، وإنما في الكسب المالي الضخم الذي تحقق للإدارة الأمريكية، حتى قبل أن تحقق ما قايضت به السعودية والإمارات من متطلبات تحصين الأمن القومي الخليجي من الاختراقات والتوغلات الإيرانية.

البعض قرأ التحول في الموقف الأمريكي بكونه جاء ثمرة للقاء القمة بين بوتين وترامب في هلسنكي، والطلب الروسي بلعب دور وساطة بين أمريكا وإيران لتجنيب المنطقة حرب شاملة ستهدد المصالح الاستراتيجية لكل الأطراف. لكن، هل كانت أمريكا تجهل هذه السيناريوهات، أو لا تضعها في الحسبان؟ 

التقدير أن الولايات المتحدة الأمريكية لما ظهرت لها بواكير فشل خيار تمرير "صفقة القرن"، بدور سعودي إماراتي مصري مركزي، عادت إلى تقييم الوضع في المنطقة من جديد في ضوء تفاهم استراتيجي مع إسرائيل، وترتيب أولوياتها في التعاطي مع القوى الإقليمية، وانتهى بها التقدير إلى تغيير السياسات في اتجاه الاعتدال مع إيران والتصعيد مع تركيا.
الولايات المتحدة الأمريكية لما ظهرت لها بواكير فشل خيار تمرير "صفقة القرن"، بدور سعودي إماراتي مصري مركزي، عادت إلى تقييم الوضع في المنطقة من جديد في ضوء تفاهم استراتيجي مع إسرائيل

حتى الآن، مؤشرات التوتر الأمريكي التركي تبقى محدودة، فباستثناء الدور العسكري التركي في سوريا، وقضية الدعم الأمريكي للأكراد، ثم ملف جماعة فتح الله غولن، لا تبدو في الظاهر مؤشرات أخرى للتوتر ذي البعد الاستراتيجي، لكن في العمق، تتصدر "الأردوغانية" ملف هذا التوتر، ويغذيه الطلب الإسرائيلي الكثيف على دور أمريكي لإنهاء دور ما تسميه أوراق مستودعات التفكير الأمريكي القريبة من اللوبي الصهيوني، بصاحب "أجندة الأسلمة".

للأسف، أحرقت السعودية وحلفاءها أوراقها القوية لتأمين منظومة أمنهما القومي، فدخلت في مناكفة مع تركيا ومع حركات الإسلام السياسي، فأعطت لأمريكا الفرصة لكي تقايضها بإيران، وتخرج بكسب ثمين من هذه المقايضة، ثم تعود لنفس لعبتها القديمة.. لأجندة الحوار مع إيران، والدخول في أزمة تصعيد مع تركيا، وتجد السعودية والإمارات نفسهما في حرج شديد، يسلبهما القدرة على إنتاج موقف تصعيدي ضد أمريكا، بحجة أن أمريكا في الحالتين معا، تساهم بدور فعال في تحقيق الأمن الخليجي، سواء من التمدد الإيراني، أو من الاختراق الذي تشكله جماعات الإسلام السياسي المدعومة تركيا!!
سيكون من ضعف الاستشراف السياسي، أن يتم الاعتقاد بأن أمريكا جادة في إعلان الحرب النفطية على إيران، أو أنها تراوغ بمطلب الحوار مع إيران، أو أنها ستبقى وفية لشركائها التقليديين في دول الخليج

والمفارقة، أنه لحظة الإعلان عن الاتفاق النووي الإيراني، أحست السعودية بالغصة، وكان لها بعض القدرة على الفعل، لكنها اليوم، ستكون عاجزة بالمرة عن فعل أي شيء؛ لأنها فقدت عناصر التوازن في سياساتها الخارجية، لما دخلت في صراع مع قوتين إقليميتين، كان من الممكن الاعتماد على السني منها لتجنيب أمنها القومي المزيد من الاختراق الشيعي.

ولذلك، سيكون من ضعف الاستشراف السياسي، أن يتم الاعتقاد بأن أمريكا جادة في إعلان الحرب النفطية على إيران، أو أنها تراوغ بمطلب الحوار مع إيران، أو أنها ستبقى وفية لشركائها التقليديين في دول الخليج. فالسوابق تؤكد أن أمريكا تساير مصالحها، وتلعب بقضية الأمن القومي الخليجي، وتقايض السعودية وحلفاءها، كما قايضتها بالأمس، بالتحولات الديمقراطية الزاحفة لدول الخليج، وكما قايضتها أيضا بإيران، لكسب مزيد من التدفق المالي الخليجي إلى خزينتها العامة.